ذاكرة الجسد3 عندما عدت بعد ذلك إلى باريس، كان في الحلق غصّة لازمتني طوال تلك الأيام، وأفسدت عليّ متعة نجاح ذلك المعرض. واللقاءات الجميلة أو المفيدة التي تمّت لي أثناءه. كان هناك شيء داخلي ينزف دون توقّف. عاطفة جديدة للغيرة والحقد الغامض الذي لا يفارقني ويذكّرني كلّ لحظة أن شيئاً ما يحدث هناك. استقبلني زياد بشوق. (أكان حقاً سعيداً بعودتي؟). أمدّني بالبريد الذي وصل أثناء غيابي وبورقة سجّل عليها أسماء الذين طلبوني هاتفياً خلال تلك الأيام. أمسكتها دون أن ألقي عليها نظرة. كنت أدري أنني لن أجد اسمك فيها. ثم راح يسألني عن المعرض.. عن سفرتي وأخباري العامة، ويحدثني عن آخر التطورات السياسية بشيء من القلق، الذي فسّرته بارتباكه لحظتها أمامي لسبب أو لآخر. كنت أستمع إليه وأنا أتفقد بحواسي ذلك البيت كما في خرافة الغول الذي كان كلما عاد إلى بيته، راح يتشمّم الأجواء بحثاً عن إنسان قد يكون تسلّل إلى مغارته أثناء غيابه.. كنت أشعر أنك مررت بهذا البيت. إحساس غامض كان يؤكد لي ذلك، دون أن أجد في الواقع حجة تثبت لي شكوكي. ولكن هل تهم الحجّّة؟.. هل يعقل أن تمر عشرة أيام دون أن تلتقيا.. وأين يمكن أن تلتقيا في مكان غير هذا؟ وإذا التقيتما هل ستكتفيان بالحديث؟ كنتِ منجماً للكبريت.. وكان زياد عاشقاً مجوسياً يعبد اللّهب! فهل كان يمكن أن يصمد طويلاً في وجه نيرانك.. أنت المرأة التي يحلم الرجال أن يحترقوا بها ولو وهماً؟ رحت أبحث في ملامح زياد عن فرحٍ ما، عن سعادةٍ ما أجد فيها الحجة القاطعة على أنك كنت له. ولكن لم يبدُ على وجهه أي شعور خاص، غير القلق. فجأة حدثني عنك قال: - لقد طلبت منها أن تأتي غداً لنتناول معاً غداءنا الأخير.. صحت بشيء من الدهشة: - لماذا الأخير؟ قال: - لأنني سأسافر الأحد.. - ولماذا الأحد؟ قلتها وأنا أشعر بشيء من الحزن والفرح معاً. أجاب زياد: - لأنني يجب أن أعود.. كنت أنتظر فقط عودتك لأسافر. لم يكن مقرراً أن أبقى هنا أكثر من أسبوعين. لقد قضيت شهراً كاملاً ولا بدّ أن أعود.. ثم أضاف بشيء من السخرية: - قبل أن أتعود على الحياة الباريسية. تراك أنتِ الحياة الباريسية التي كان يخاف أن يتعود عليها؟ تراه كان يهرب مرة أخرى من حبٍ آخر أم أن مهمته قد انتهت أخيراً فلم يعد أمامه غير الرحيل؟ مر يوم السبت وسط مشاغل عودتي، وانشغال زياد بترتيب تفاصيل سفره. حاولت أن أتحاشى الجلوس إليه ذلك المساء. ولكن كان يوم الأحد يتربص بنا ويضعنا أخيراً وجهاً لوجه نحن الثلاثة في ذلك الغداء الحاسم. يومها قابلتني بحرارة لم أتوقعها. فسّرتها على طريقتي بأنها شعور بالذنب، (أو ربما بالامتنان). ألم أقدم لك حباً على طبق من شعر على طاولة هي.. بيتي؟! ثم شكرتني على رسائلي، وأبديت إعجابك بأسلوبي.. وكأنك أستاذة قدم لها تلميذ نصّاً إنشائياً. أزعجني شكرك العلني، وشعرت أنك حدّثت زياد عنها وربما أريته إياها أيضاً. كنت على وشك أن أقول شيئاً عندما واصلت: - تمنيت لو كنت معك هناك.. هل غرناطة جميلة حقاً إلى هذا الحد؟ وهل زرت حقاً بيت غارسيا لوركا في (خوانتا فاكيروس).. أليس هذا اسم ضيعته كما قلت؟ حدّثني عنه.. وجدت في طريقتك في بدء الحديث معي من الهوامش، شيئاً مثيراً للدهشة، وربما للتفكير أيضاً. أهذا كل ما وجدت قوله بعد كل الزوابع التي مرّت بنا، وبعد عشرة أيام من الجحيم الذي عشته وحدي؟ لا أدري كيف خطر عندئذٍ في ذهني شهد لفيلم شاهدته يوماً عن حياة لوركا.. قلت لك: - أتدرين كيف مات لوركا؟ قلتِ: -بالإعدام.. قلت: - لا.. وضعوه أمام سهل شاسع وقالوا له امشِ.. وكان يمشي عندما أطلقوا خلفه الرصاص، فسقط ميتاً دون أن يفهم تماماً ما الذي حدث له. إنه أحزن ما في موته. فلم يكن لوركا يخاف الموت، كان يتوقّعه، ويذهب إليه مشياً على الأقدام كما نذهب لموعدٍ مع صديق.. ولكن كان يكره فقط أن تأتيه الرصاصة من الظهر! شعرت آنذاك أن زياد تلقي كلماتي كرصاصة في الصدر. رفع عينيه نحوي، أحسسته على وشك أن يقول شيئاً ولكنه صمت. كنا نفهم بعضنا دون كثير من الكلام. ندمت بعدها على إيلامي المتعمد له. فقد كان إيلامه يعزّ عليّ أكثر من ألمك. ولكن كان هذا أقل ما يمكن أن أقوله له بعد كل ما عشته من عذاب بسببه. وربما كان أكثره أيضاً. تحول غداؤنا فجأة إلى وجبة صمت مربك تتخلله أحيانا أحاديث مفتعلة، كنتِ تخترعينها أنتِ بفطرةٍ نسائية لترطيب الجو.. وربما للمراوغة. ولكن عبثاً. كان هناك شيء من البلّور قد انكسر بيننا. ولم يعد هناك من أمل لترميمه. سألتكِ بعدها: - هل ستأتين معي لنرافق زياد إلى المطار؟ أجبتِ: -لا.. لا يمكن أن أذهب إلى المطار.. قد ألتقي بعمي هناك، إذ أنه يحدث أن يمر بمكتب الخطوط الجوية الجزائرية. ثم إنني أكره المطارات.. وأكره مراسيم الوداع. الذين نحبهم لا نودعهم، لأننا في الحقيقة لا نفارقهم. لقد خلق الوداع للغرباء.. وليس للأحبة. كانت تلك إحدى طلعاتك العجيبة المدهشة كقولك السابق مثلاً "نحن لا نكتب إهداءً سوى للغرباء وأما الذين نحبهم فهم جزء من الكتاب وليسوا في حاجة إلى توقيع في الصفحة الأولى.." ولماذا الوداع؟ هل هناك من ضرورة لوداع آخر؟ كنت أراك طوال وجبة الغداء تلتهمينه بنظراتك ولا تأكلين شياً سواه. كانت عيناك تودّعان جسده قطعة قطعة. تتوقّفان طويلاً عند كلّ شيء فيه، وكأنك تختزنين منه صوراً عدة.. لزمن لن يبقى لك فيه سوى الصور. وكان هو يتحاشى نظراتك، ربما مراعاة لي، أو لأن كلماتي الموجعة أفقدته رغبة الحب.. ورغبة الأكل كذلك. وجعلته يحوّل نظراته الحزينة إلى أعماقه وإلى ما بعد السفر. وكنت أنا لا أقل حزناً عنكما، ولكن حزني كان فريداً وفرديّاً كخيبتي. متشعّب الأسباب غامضاً كموقفي من قصّتكما العجيبة. وربما زاده رفضك مرافقتي إلى المطار توتراً. فقد كنت أطمع في عودتك معي على انفراد لأخلو أخيراً بك. لأفهم منك دون كثير من الأسئلة، إلى أيّ مدى كنت قادرة على محو تلك الأيام من ذاكرتك، والعودة إليّ دون جروح أو خدوش.. كنت أدري أن قلبك قد أصبح منحازاً إليه. وربما جسدك أيضاً. ولكنني كنت أثق بمنطق الأيام. وأعتقد أنك في النهاية ستعودين إليّ، لأنه لن يكون هناك سواي.. ولأنني ذاكرتك الأولى.. وحنينك الأول لأبوة كنت أنا نسخة أخرى عنها. فرحت أراهن على المنطق وأنتظرك. رحل زياد.. ورحت أستعيد تدريجياً بيتي وعاداتي الأولى قبله. كنت سعيداً ولكن بمرارة غامضة. فقد كنت تعوّدت على وجوده معي، وكنت أشعر بشيء من الوحدة المفاجئة وهو يتركني وحدي لموسم الشتاء؛ لتلك الأيام الرمادية، والسهرات الطويلة المدهشة. رحل زياد.. وفرغ البيت منه فجأة كما امتلأ به. لم يبق سوى تلك الحقيبة التي قد تشهد على مروره من هنا، والتي تركها أسفل الخزانة بعدما جمع فيها أوراقه وأشياءه، والتي رأيت في بقائها عندي مشروع عودة محتملة، قد تكونين أنت أحد أسبابها. ولكن لابد أن أعترف أن سعادتي كانت تفوق حزني، وأنني كنت أشعر أنني أستعيدك وأنا أستعيد ذلك البيت الفارغ منه. كنت أشعر أن هذا البيت سيمتلئ أخيراً بحضورك بطريقة أو بأخرى، وأنني سأخلو فيه بك وأنا أخلو لنفسي. سأعيدك إليه تدريجياً. ألم تعترفي مراراً أنك تحبينه.. تحبين طريقة ترتيبه.. تحبين ضوءه.. منظر نهر السين الذي يطلّ عليه؟ أن ترى كنت تحبين فقط زياد، وحضوره الذي كان يؤثث كل شيء.. ويجعل الأشياء أحلى! في البدء.. كنت أتوقع هاتفك. كنت أتمسك به، أستنجد به، ولكن صوتك كان ينسحب أيضاً تدريجياً أمام دهشتي. كان هاتفك يأتي مرة كل أسبوع، ثم كلّ أسبوعين، ثم نادراً، قبل أن ينقطع نهائياً. كان يأتي شحيحاً كقطرات الدواء. وكنت أشعر أحياناً أنك تطلبينني مجاملة فقط، أو عن ضجر، أو ربما بنية غير معلنة لمعرفة أخبار زياد. وكنت أنا أثناء ذلك، أتساءل "تراه كان يكتب إليك مباشرة بعنوان البيت، ولهذا لم تكوني في حاجة إلى أن تسأليني مرة عن أخباره؟ أم أنه كعادته أخبرك مسبقاً أنه لن يكتب إليك، وأن عليك مثله أن تتعلمي النسيان. فرحت تطبّقين تلك العقوبة عليّ أيضاً!. كان زياد يكره أنصاف الحلول في كل شيء. كان متطرفاً كأي رجل يحمل بندقية. ولذا كان يكره أيضاً ما كان يسمّيه سابقاً "أنصاف الملذات" أو "أنصاف العقوبات"! كان رجل الاختيارات الحاسمة. فإما أن يحب ويتخلى عندئذٍ عن كل شيء ليبقى مع من يحب، أو يرحل لأن الذي ينتظره هناك أهم. وعندها لن يكون من مبرر لتعذيب النفس بالأشواق والذكرى. تساءلت طويلاً بعد ذلك، ماذا عساه اختار؟ تراه تصرّف هذه المرة أيضاً كما تصرف منذ سنوات في الجزائر مع تلك الفتاة التي كان على وشك الزواج منها.. أم أنه تغيّر هذه المرة، ربما بحكم العمر.. وربما فقط لأنك أنت، ولأن الذي حدث بينكما لم يكن قصة عادية تحدث بين شخصين عاديين. كنت أحاول أحياناً استدراجك للحديث عنه، عساني أصل إلى نتيجة تساعدني على تحديد القواعد الجديدة للعبة.. والتأقلم معها. وكنت تراوغينني كعادتك. كان من الواضح أنك تحبّين أن أحدثك عنه، ولكن دون أن تبوحي لي بشيء. كنت تناقضين نفسك كل لحظة. تمزجين بين الجد والمزاح، وبين الحقيقة والكذب، في محاولة للهروب من شيء ما.. كان كلامك كذباً أبيض أستمع إليه بفرشاتي، وألوّن جمله بألوان أكثر تناسباً مع كل ما أعرفه عنك. تعودت أن أكسو ما تقولينه لي بالبنفسجي، بالأزرق.. والرمادي، بالقلق الذي يخيم على كل ما تقولينه. تعودت أن أجمع حصيلة ما قلته لي، وأصنع منها حواراً لرسوم متتالية على ورق، أضع عليها أنا التعليقات المناسبة لحوار آخر وكلام لم نقله. لعلني وقتها بدأت أكتشف تدريجياً تلك العلاقة الغامضة التي بدأت تربطك في ذاكرتي بذلك اللون الأبيض. لم يكن كلامك وحده كذباً أبيض. كنت امرأة تملك قدرة خارقة على استحضار ذلك اللون في كل أشكاله وأضداده. أو لعلني وقتها أيضاً بدأت دون أن أدري وبحدس غامض أخرج هذا اللون نهائياً من ألوان لوحاتي، وأحاول الاستغناء عنه، في محاولة مجنونة لإلغائك. كان لوناً متواطئاً معك. منذ ذلك اليوم الذي رأيتك فيه طفلة تحبو بينما أثوابها الطفولية البيضاء تجفّ فوق خشبات منصوبة فوق كانون. غمزة مسبقة للقدر الذي كان يُهيّأ لي معك على نارٍ باردة، أكثر من ثوب أبيض. كان الأبيض لوناً مثلك يدخل في تركيب كلّ الألوان وكل الأشياء. فكم من الأشياء يجب أن أدمّر قبل أن أنتهي منه! وكم من اللوحات سألغي إن أنا قاطعته! كنت أحاول بكل الأشكال (والألوان.. ) أن أنتهي منك. ولكني كنت في الحقيقة أزداد تورّطاً في حبك. اعترفت لك مرة على الهاتف.. في لحظة يأس: أتدرين.. حبك صحراء من الرمال المتحركة، لم أعد أدري أين أقف فيها.. أجبتني بسخريتكِ الموجعة: - قف حيث أنت.. المهم ألا تتحرك. فكل محاولة للخلاص في هذه الحالات، ستجعل الرمال تسحبك أكثر نحو العمق. إنها النصيحة التي يوجهها أهل الصحراء لكل من يقع في بالوعة الرمال المتحركة.. كيف لا تعرف هذا؟! يومها كان لا بد أن أحزن.. ولكنني ضحكت. ربما لأنني أحب سخريتك الذكية حتى عندما تكون موجعة، فنحن قلما نلتقي بامرأة تعذّبنا بذكاء. وربما لأنك كنتِ تزفّين لي احتمال موت كنت أراه جميلاً بقدر ما هو حتمي.. تذكّرت مثلاً شعبياً رائعاً، لم أكن قد تنبّهت له من قبل" "الطير الحر ما ينحكمش، وإذا انحكم.. ما يتخبّطش!". وكنت أشعر آنذاك أنني ذلك الطائر المكابر الذي ينتسب إلى سلالة الصقور والنسور التي لا يسهل اصطيادها، والتي عندما تُصطاد، تصبح شهامتها في أن تستسلم بكبرياء، دون أن تقاوم أو تتخبّط كما يفعل طائر صغير وقع في فخّ. عندما أجبتك يومها بذلك المثل الشعبي، صحتِ دهشة: - ما أجمله.. لم أكن أعرفه! أجبتك وسط تنهيدة: - لأنك لم تعرفي الرجال.. ليس هذا زمناً للصقور ولا للنسور.. إنه زمن للطيور المدجّنة التي تنتظر في الحدائق العمومية! ست سنوات مرّت على ذلك الحديث. وها أنا أذكره اليوم مصادفة، وأستعيد نصيحتك الأخيرة: "قف حيث أنت.. المهم ألا تتحرك!". كيف صدّقت يومها أنك كنت تخافين عليّ من العواصف والزوابع.. والرمال المتحركة. أنت التي أوقفتني هنا في مهب الجرح عدة سنوات، ورحت تنفخين حولي العواصف وتحركين أمواج الرمال تحت قدميّ.. وتحرّضين القدر عليّ. لم أتحرك أنا.. ظللت واقفاً بحماقة عند عتبات قلبك لسنوات عدة. كنت اجهل أنك تبتلعينني بصمت، أنك تسحبين الأرض من تحت قدمي وأنني أنزلق نحو العمق. كنت أجهل أن زوابعك ستعود كل مرة، وحتى بعد غيابك بسنوات لتغتالني. واليوم.. وسط الأعاصير المتأخرة يأتي كتابك ليثير داخلي زوبعة من الأحاسيس المتطرّفة والمتناقضة معاً. "منعطف النسيان" قلتِ.. من أين يأتي النسيان..أسألك؟ *** مازلت أذكر ذلك اليوم من فبراير، عندما جاء صوت سي الشريف على الهاتف، ليدعوني إلى العشاء في منزله. فوجئت بدعوته، ولم أسأله حتى عن مناسبتها. فهمت منه فقط أنه دعا آخرين للعشاء، وأننا لن نكون بمفردنا. أعترف أنني كنت سعيداً ومرتبكاً بفرحي. خجلت من نفسي لأنني منذ لقائنا الأخير لم أطلبه سوى مرة واحدة بمناسبة العيد، برغم إلحاحه عليّ أن أزوره ولو مرة في المكتب، لنأخذ قهوة معاً. فجأة، أخذت قراراً ربما كان أحمق. قررت أن آخذ إحدى لوحاتي لأهديها إياه. ألم يهدني اليوم تلك الفرحة التي لم أعد أتوقعها؟ سأثبت له دون كلام، أن لوحاتي لا تتداول إلا بعملة القلب وليس بالعملات المشبوهة. بعد ذلك وجدت لهذه الفكرة حسنة أخرى. سأكون حاضراً في ذلك البيت الذي تسكنينه ولو معلّقاً على جدار. في اليوم التالي، حملت لوحتي وذهبت إلى ذلك العشاء. كان القلب يركض بي، يسبقني في ذلك الحي الراقي بحثاً عن تلك البناية. حتى أنني لم أعد أذكر من اهتدى إلى بيتك أولاً: عيناي.. أم قلبي. عندما دخلتها شعرت أن عطرك كان يتربص بي عند المدخل..وفي المصعد.. وأنك كنت هنا تقودين وجهتي بعطرك فقط. استقبلني سي الشريف عند الباب. رحبّ بي بعناق حار، زادت حرارته رؤية تلك اللوحة الكبيرة التي كنت أحملها بصعوبة. بدا لي في تلك اللحظة أنه لم يصدق تماماً أن تكون هدية له. تردد قبل أن يأخذها مني، لكنني استوقفته لأقول له: "هذه لوحة مني.. إنها هدية لك.." رأيت فجأة على وجهه فرحاً وغبطة نادرة. وراح ينزع عنها الغلاف على عجل، بفضول من ربح شيئاً في اليانصيب. ثم صاح وهو يرى منظر تلك القنطرة معلّقة وسط الضباب إلى السماء: - هذي قنطرة الجبال! وقبل أن أقول شيئاً عانقني وقال وهو يربت على كتفي: - يعطيك الصحة.. تعيش آ حبيبي.. تعيش! لم أتمالك نفسي من تقبيله بالحرارة نفسها، لأنه أهداني شيئاً ربما لم ينتبه لثمنه عندي. رافقني سي الشريف إلى الصالون وهو يمسك ذراعي بيد، ويمسك لوحتي باليد الأخرى. واتجه بي نحو ذلك المجلس ليقدّمني إلى ضيوفه، كأنه يريد أن يشهد الجميع على امتنانه لي. أو ربما على علاقتنا وصداقتنا الوطيدة، التي كان شائعاً عني أنني لا أجود بها في هذا الزمن المبتذل.. إلا على القلّة. لفظ أمامي عدة أسماء لعدة وجوه، صافحت أصحابها وأنا أتساءل من يكون معظمهم. لم أكن أعرف منهم غير واحد أو اثنين، وأما البقية فكانوا ما أسمّيه النبتات الطفيلية.. أو "النبتات السيئة". كما يسمي الفرنسيون تلك النبتة التي تنمو من اللاشيء، في أي حوض أو أية تربة، وإذا بها تمد جذورها فجأة وتضاعف أوراقها وفروعها، حتى تطغى وحدها ذات يوم على كل التربة. لا أدري لماذا كنت دائماً أملك الحاسة القوية التي تجعلني أتعرّف على هذا النوع من المخلوقات أينما كانوا. فهم على اختلاف أشكالهم وهيآتهم ومناصبهم يمتلكون مظهراً مشتركاً يفضحهم، بذلك الزيف والرياء المفرط وبمظاهر الغنى والوجاهة الحديثة التي لبسوها على عجل.. وبذلك القاموس المشترك في الحديث الذي يوهمك أنهم أهم مما تتوقع. نظرة خاطفة واحدة، وبعض الجمل المتبادلة فقط، كانت كافية لأستنتج نوعية ذلك المجلس "الراقي" الذي يضم نخبة من وجهاء المهجر، الذين يحترفون الشعارات العلنية.. والصفقات السرية. من الواضح أنني كنت في كوكب ليس كوكبي.. راح سي الشريف يطلع ضيوفه على تلك اللوحة بشيء من الفخر والمودة معاً.. والتفت إليّ ليقول لي: _ أتدري خالد.. لقد حققت لي اليوم أمنية عزيزة عليّ. كنت للذكرى أريد أن يكون في بيتي شيء لك. لا تنس أنك صديق طفولتي وابن حيّي "كوشة الزيات".. أتذكر ذلك الحيّ؟ كنت أحب سي الشريف. كان فيه شي من هيبة قسنطينة وحضورها، شيء من الجزائر العريقة وذاكرتها، شيء من سي الطاهر، من صوته وطلّته.. وكان في أعماقه شيء نقيّ لم يلوّث بعد برغم كل شيء. ولكن حتى متى.. كنت أشعر أنه محاط بالذباب وبقذارة المرحلة. وكنت أخاف أن يتسلل إليه العفن حتى العمق ذات يوم. أخاف عليه، وقد أخاف على ذلك الاسم الكبير الذي يحمله إرثاً من سي الطاهر من التدنيس. ترى أكان شعوري ذلك حدساً، أم استنتاجاً منطقياً لذلك الواقع الموجع الذي كنت أراه محاطاً به؟ فهل سينجو سي الشريف من هذه العدوى؟ وماذا عساه أن يختار؟ في أية بحيرة سيسبح.. مع أي تيار وضد أي تيار.. ولا حياة للأسماك الصغيرة المعزولة في هذه المياه العكرة التي تحكمها أسماك القرش؟ كان الجواب أمامي ولم أنتبه في تلك السهرة، أنّ سي الشريف قد اختار بحيرته العكرة وانتهى الأمر. قال جاري الأنيق خلف سيجاره الكوبي: - لقد كنت دائماً معجباً برسومك.. وطلبت أن يتصلوا بك لتساهم في بعض مشاريعنا.. ولكنني لا أذكر أنني شاهدت لك أي لوحات عندنا. لم أكن أدري آنذاك من هو محدثي.. ولا عن أية مشاريع كان يحدثني. ولكن كان يكفي أن يتحدث عن نفسه بصيغة الجمع، لأفهم أنه شخصية فوق العادة. وكأن سي الشريف تنبّه إلى أنني أجهل هوية محدّثي فتدخل موضحاً: - إن (سي..) مولع بالفن، وهو مشرف على مشاريع كبرى ستغيّر الوجه الثقافي للجزائر. ثم أضاف وكأنه تنبّه إلى شيء: - .. ولكنك لم تزر الجزائر منذ عدة سنوات.. صحيح أنك لم ترَ بعد تلك المركّبات الثقافية والتجارية الجديدة.. لا بد أن تتعرف عليها.. ولم أجبه.. كنت أراه يتدحرج أمامي من سلّم القيم، غباءً أو تواطؤاً لا أدري. فاحتفظت لنفسي بما سمعته عن تلك.. "المنشآت" وكل ما جاورها من معالم وطنية بُنيت حجراًً حجراً على العمولات والصفقات، وتناوب عليها السرّاق كباراً وصغاراً.. على مرأى من الشهداء الذين شاء لهم حظهم أن يكون مقامهم مقابلاً.. لتلك الخيانة. ها هو إذن (سي...) يبدو طيباً و رجلاً شبه بسيط، لولا بدلته الأنيقة جداً.. وحديثه الذي لا يتوقف عن مشاريعه القريبة والبعيدة، التي تمر جميعها بباريس وبأسماء أجنبية مشبوهة، تبدو مخجلة في فم ضابط سابق. ها هو إذن.. تراه ظاهرة ثقافية في عالم العسكر.. أم ظاهرة عسكرية في عالم الثقافة.. أم أن "الزواج المنافي للطبيعة" أصبح رمزاً طبيعياً مذ شاع وباؤه "رسمياً" في أكثر من قيادة أركان عربية! كان الجميع يتملقونه، ويجاملونه، عساهم يلحسون شيئاً من ذلك العسل الذي كان يتدفق بين يديه نهراً من العملة الصعبة، في زمن القحط والجفاف.. وكنت أتساءل طوال تلك السهرة، ماذا كنت أفعل وسط ذلك المجلس العجيب؟ كنت أتوقع أن تكون تلك الدعوة، أو على الأقل موعداً نادراً لي مع الوطن، أستعيد فيه مع سي الشريف ذكرياتنا البعيدة. ولكن الوطن كان غائباً من تلك السهرة. ناب عنه جرحه، ووجهه الجديد المشوه. كانت سهرة في فرنسا.. نتحدث فيها بالفرنسية.. عن مشاريع سيتم معظمها عن طريق جهات أجنبية.. بتمويل من الجزائر.. فهل حصلنا على استقلالنا حقاً؟! انتهت تلك السهرة في حدود منتصف الليل. فقط كان (سي...) متعباً وله ارتباطات ومواعيد صباحية.. وربما ليلية أيضاً. إن المال السريع الكسب، يعجّل في فتح شهيتنا لأكثر من ملذّات. وكان يمكن أن أكون سعيداً ذلك المساء. لقد كنت في الواقع محطّ اهتمام الجميع لأسباب لم أشأ التعمق فيها.. بل ربما كنت النجم الثاني في تلك السهرة مع (سي...) الذي فهمت أن الدعوة كانت على شرفه، وأنني دعيت لها، لأنه كان يحب أن يكون محاطاً في سهراته بالفنانين دليلاً على ولعه بالإبداع.. وذوقه غير العسكري! والواقع أنه كان لطيفاً ومجاملاً.. وأنه حدثني يومها عن آرائه الفنية في مجالات مختلفة، وحبه لبعض الرسامين الجزائريين بالذات. بل وقال مازحاً، إنه يحسد سي الشريف على تلك اللوحة، وأنني إذا كنت آخذ معي لوحة حيث أذهب، فسيدعوني إلى بيته عند زيارتي للجزائر.. ضحكت من مزاحه. ولكنني كنت حزيناً بما فيه الكفاية بعد ذلك لأكون على حافة البكاء، وأنا أنفرد بنفسي ذلك المساء في سريري، وأتساءل أي حماقة أوصلتني إلى ذلك البيت؟ بيت كنت أتوقعه بيتك، وإذا بي أدخله وأغادره دون أن ألمح حتى طرف ثوبك، وهو يعبر ذلك الممر الذي كان يفصلني.. عن عالمك. في صباح اليوم التالي، دقّ الهاتف. توقعتك أنت، وكانت كاترين.. قالت: - قبلات صباحية.. وأجمل الأماني لك.. وقبل أن أسأل عن المناسبة أضافت: - .. اليوم عيد (السان فالنتان) القديس الذي يبارك العشاق. فكّرت أن أطلبك بدل أن أبعث إليك بطاقة.. ماذا تريد أن أتمنى لك في عيد الحب؟ وأمام دهشتي.. أو تردّدي أضافت بلهجة ساخرة أحبها: - اطلب أيها الأحمق.. فالدعوات تستجاب اليوم! ضحكت.. كدت أقول لها أطلب شيئاً من النسيان فقط. ولكنني قلت شيئاً مشابهاً لذلك: - أريد أن أحال إلى التقاعد العاطفي.. أيمكنك أن تبلّغي قديسك طلبي هذا! قالت: - با لك من مجنون.. أتمنى ألا يسمعك فيحرمك من بركاته إلى الأبد.. هل أتعبك موعدنا الأخير إلى هذا الحد؟ يومها ضحكت مع كاترين. ثم وضعت تلك السماعة لأبكي معك. كنت أكتشف لأول مرة ألم ذلك العيد الذي لم أكن سمعت به من قبل. لم يأت هاتفك حتى ليشكرني على تلك اللوحة، أو حتى على تلك الزيارة، وذلك الموعد المتعمد الذي حضرته وتغيّبت عنه. جاء عيد الحب إذن.. فيا عيدي وفجيعتي، وحبي وكراهيتي، ونسياني وذاكرتي، كلّ عيد وأنت كلّ هذا.. للحب عيد إذن.. يحتفل به المحبّون والعشّاق، ويتبادلون فيه البطاقات والأشواق، فأين عيد النسيان سيّدتي؟ هم الذين أعدّوا لنا مسبقاً تقويماً بأعياد السنة، في بلد يحتفل كلّ يوم بقديس جديد على مدار السنة.. أليس بين قدّيسيهم الثلاثمائة والخمسة والستين.. قديس واحد يصلح للنسيان؟ مادام الفراق هو الوجه الآخر للحب، والخيبة هي الوجه الآخر للعشق، لماذا لا يكون هناك عيد للنسيان يضرب فيه سُعاة البريد عن العمل، وتتوقف فيه الخطوط الهاتفية، وتُمنع فيه الإذاعات من بثّ الأغاني العاطفية.. ونكفّ فيه عن كتابة شعر الحب! منذ قرنين كتب "فيكتور هوغو" لحبيبته جوليات دروي يقول: "كم هو الحب عقيم، إنه لا يكف عن تكرار كلمة واحدة "أحبك" وكم هو خصب لا ينضب: هنالك ألف طريقة يمكنه أن يقول بها الكلمة نفسها".. دعيني أدهشك في عيد الحب.. وأجرّب معك ألف طريقة لقول الكلمة الواحدة نفسها في الحب.. دعيني أسلك إليك الطرق المتشعّبة الألف، وأعشقك بالعواطف المتناقضة الألف، وأنساك وأذكرك، بتطرّف النسيان والذاكرة. وأخضع لك وأتبرأ منك، بتطرّف الحرية والعبودية.. بتناقض العشق والكراهية. دعيني في عيد الحب.. أكرهك.. بشيء من الحبّ. تراني بدأت أكرهك يومها؟ ومتى ولدت داخلي تلك العاطفة بالتحديد، وراحت تنمو بسرعة مدهشة، وأصبحت تجاور الحب بعنفه؟ ترى إثر خيباتي المتكررة معك، بعد كل تلك الأعياد التي أخلفتها مروراً بذكرى لقائنا، أم بسبب ذلك التوتر الغامض الذي كان يسكنني، ذلك الجوع الدائم إليك، الذي كان يجعلني لا أشتهي امرأة سواك. كنت أريدك أنت لا غير، وعبثاً كنت أتحايل على جسدي. عبثاً كنت أقدّم له امرأة أخرى غيرك. كنتِ شهوته الفريدة.. ومطلبه الوحيد. الأكثر إيلاماً ربما، عندما كنت في لحظة حبّ أمرر يدي على شعر كاترين. وإذا بيدي تصطدم بشعيراتها القصيرة الشقراء، فأفقد فجأة شهيّة حبّي وأنا أتذكر شعرك الغجري الطويل الحالك، الذي كان يمكن أن يفرش بمفرده سريري. كان نحولها يذكّرني بامتلائك، وخطوط جسدها المستقيمة المسطّحة تذكرني بتعاريجك وتضاريس جسدك. وكان عطرك يأتي بغيابه حتى حواسي ليلغي عطرها، ويذكّرني كطفلٍ يتصرف بحواسه الأولى، أن ذلك العطر لم يكن العطر السري لأمي! كنت تتسللين إلى جسدي كلّ صباح وتطردينها من سريري. يوقظني ألمك السري، وشهوتك المتراكمة في الجسد قنبلة موقوتة، ورغبة ليلية مؤجّلة يوماً بعد آخر. هل تستيقظ الرجولة باكراً حقاً، أم الشوق هو الذي لا ينام؟ أجيبيني أيتها الأنثى التي تنام ملء جفونها كل ليلة.. أَوَحدهم الرجال لا ينامون؟ ولماذا يرتبك الجسد، وأكاد أجهش على صدر غيرك بالبكاء، أكاد أعترف لها أنني عاشق امرأة أخرى، وأنني عاجز أمامها لأن رجولتي لم تعد ملكي، وإنما تتلقى أوامرها منك فقط! متى بدأت أكرهك! ترى في ذلك اليوم الذي لبست فيه كاترين ثيابها، مدّعية بمجاملة كاذبة موعداً ما لتتركني وحدي في ذلك السرير الذي لم يعد يشبع نهمها. يوم اكتشفت وأنا أذرف دمعة رجالية مكابرة: أنه يحدث للرجولة أيضاً أن تنكّس أعلامها، وترفض حتى لعبة المجاملة.. أو منطق الكبرياء الرجالي.. وأننا في النهاية لسنا أسياد أجسادنا كما نعتقد. يومها تساءلت بشيء من السخرية المرة، إن كان ذلك القديس (السان فالنتان) قد استجاب لدعوتي بهذه السرعة.. وحوّلني حقاً إلى عاشق متقاعد! أذكر أنني لعنتك.. وحقدت عليك آنذاك، وشعرت بشيء من المرارة المجاورة للبكاء.. أنا الذي لم أبك حتى يوم بترت ذراعي، كان يمكن أن أبكي يومها وأنت تسرقين منّي آخر ما أملك. تسرقين رجولتي! ذات يوم سألتك "هل تحبينني؟..". قلتِ: - لا أدري.. حبك يزيد وينقص كالإيمان! يمكن أن أقول اليوم، إن حقدي عليك كان يزيد وينقص أيضاً كإيمانك.. يومها أضفت بسذاجة عاشق: - وهل أنتِ مؤمنة؟ صحتِ: - طبعاً.. أنا أمارس كل شعائر الإسلام.. وفرائضه - وهل تصومين؟ - طبعاً أصوم.. إنها طريقتي في تحدّي هذه المدينة.. في التواصل مع الوطن.. ومع الذاكرة. تعجّبت لكلامك. لا أدري لماذا لم أكن أتوقّعك هكذا. كان في مظهرك شيء ما يوهم بتحررك من كل الرواسب. عندما أبديت لك دهشتي قلتِ: - كيف تسمّي الدين رواسب، إنه قناعة؛ وهو ككل قناعاتنا قضية لا تخصّ سوانا.. لا تصدق المظاهر أبداً في هذه القضايا. الإيمان كالحب عاطفة سرية نعيشها وحدنا في خلوتنا الدائمة إلى أنفسنا. إنها طمأنينتنا السرية، درعنا السرية.. وهروبنا السري إلى العمق لتجديد بطرياتنا عند الحاجة. أما الذين يبدو عليهم فائض من الإيمان، فهم غالباً ما يكونون قد أفرغوا أنفسهم من الداخل ليعرضوا كل إيمانهم في الواجهة، لأسباب لا علاقة لها بالله! ما كان أجمل كلامك يومها! كان يأتي ليقلب ثنايا الذاكرة، ويوقظ داخلي صوت المآذن في صباحات قسنطينة. كان يأتي مع الصلوات، مع التراتيل، مع صوت (المؤدّب) في كتاتيب قسنطينة القديمة. فأعود إلى الحصير نفسه أجلس عليه بالارتباك الطفولي نفسه، أردّد مع أولاد آخرين تلك الآيات التي لم نكن نفهمها بعد، ولكننا كنّا ننسخها على ذلك اللوح ونحفظها كيف ما كان، خوفاً من "الفالاقة". وتلك العصا الطويلة التي كانت تتربص بأقدامنا لتدميها عند أول غلطة. كان يأتي ليصالحني مع الله، أنا الذي لم أصم من سنين. كان يصالحني مع الوطن، ويحرّضني ضد هذه المدينة التي تسرق منّي كلّ يوم مساحة صغيرة من الإيمان.. ومن الذاكرة. كنتِ يومها المرأة التي أيقظت ملائكتي وشياطيني في الوقت نفسه. ثم راحت تتفرج عليّ بعدما حوّلتني إلى ساحة يتصارع الخير والشر فيها.. دون رحمة! *** في ذلك العام.. كان النصر للملائكة. قررت أن أصوم وقتها ربما بتأثير كلامك، وربما أيضا للهروب منك إلى الله. أما قلت "العبادة درعنا السرية". قلت سأحتمي من سهامك بالإيمان إذن.. رحت أحاول أن أنساك وأنسى قطيعتك.. وأنسى حتى وجودك معي في المدينة نفسها. كم من الأيام قضيتها في تلك الغيبوبة الدينية. بين الرهبة والذهول.. أحاول بترويض جسدي على الجوع أن أروّضه على الحرمان منك أيضاً. كنت أريد أن أستعيد سلطتي على حواسي التي تسللت إليها، وأصبحت تتلقي أوامرها منك وحدك. كنت أريد أن أعيد لذلك الرجل الذي كان يوماً أنا، مكانته الأولى قبلك. هيبته.. حرمته.. مبادئه.. وقيمه التي أعلنت عليها الحرب. أعترف أنني نجحت في ذلك بعض الشيء ولكنني لم أنجح في نسيانك أبداً. كنت أقع في فخّ آخر لحبك. وأنا أكتشف أنني كنت أثناء ذلك أعيش بتوقيتك لا غير. كنت أجلس إلى طاولة الإفطار معك. وأصوم وأفطر معك. أتسحّر وأمسك عن الأكل معك، أتناول نفس أطباقك الرمضانية، وأتسحّر بك.. لا غير. لم أكن أفعل شيئاً سوى التوحّد معك في كلّ شي دون علمي. كنت في النهاية كالوطن. كان كلّ شيء يؤدي إليك إذن.. مثله كان حبّك متواصلاً حتى بصدّه وبصمته. مثله كان حبك حاضراً بإيمانه وبفكره. فهل العبادة تواصل أيضاً؟ *** انتهى رمضان. وها أنا أنزل من طوابق سموّي العابر، وأتدحرج فجأة نحو حزيران. ذلك الشهر الذي كنت أملك أكثر من مبرر للتشاؤم منه. فقد كان في ذاكرتي ما عدا حزيران 67، ذكريات موجعة أخرى ارتبطت بهذا الشهر، آخرها حزيران 71 الذي قضيت بعضه في سجن للتحقيق والتأديب، يستضاف فيه بعض الذين لم يبتلعوا ألسنتهم بعد.. أما أول ذكرى مؤلمة ارتبطت بهذا الشهر فكانت تعود إلى سجن (الكدية) الذي دخلته يوماً في قسنطينة مع مئات المساجين إثر مظاهرات ماي 1945 حيث تمّت محاكمتنا في بداية حزيران أمام محكمة عسكرية. أيّ حزيران كان الأكثر ظلماً، وأية تجربة كانت الأكثر ألماً؟ أصبحت أتحاشى طرح هذه الأسئلة، منذ اليوم الذي أوصلتني أجوبتي إلى جمع حقائبي ومغادرة الوطن. الوطن الذي أصبح سجناً لا عنوان معروفاً لزنزانته؛ لا اسم رسمياً لسجنه؛ ولا تهمة واضحة لمساجينه، والذي أصبحت أُقاد إليه فجراً، معصوب العينين محاطاً بمجهولين، يقودانني إلى وجهة مجهولة أيضاً. شرف ليس في متناول حتى كبار المجرمين عندنا. هل توقعت يوم كنت شاباً بحماسه وعنفوانه وتطرف أحلامه أنه سيأتي بعد ربع قرن، يوم عجيب كهذا، يجرّدني فيه جزائري مثلي من ثيابي.. وحتى من ساعتي وأشيائي، ليزجّ بي في زنزانة (فردية هذه المرة) زنزانة أدخلها باسم الثورة هذه المرّة.. الثورة التي سبق أن جرّدتني من ذراعي! أكثر من سبب وأكثر من ذكرى كانت تجعلني أتطيّر من ذلك الشهر الذي قضم الكثير من سعادتي على مرّ السنوات. تراني في ذلك العام تحرّشت بالقدر أكثر، ليردّ على تشاؤمي بكل تلك الفجائع المذهلة التي حلّت بي في شهر واحد؟ أم فقط، كان ذلك هو قانون الفجائع والكوارث التي لا تأتي سوى دفعة واحدة "كي تجِي تيجبها شعرة.. وكي تروح تقطّع السلاسل". كانت تلك عبثيّة الحياة، التي يكفي لمصادفة رفيعة كشعرة أن تأتيك بالسعادة والحب والحظّ الذي لم تكن تتوقّعه. ولكن.. عندما تنقطع تلك الشعرة الرفيعة، فهي تكسر معها كلّ السلاسل التي كنت مشدوداً إليها، معتقداً أنها أقوى من أن تكسرها شعرة! قبلها لم أنتبه إلى أن لقاءك ذات يوم، بعد ربع قرن من النسيان، كان تلك المصادفة الرفيعة كشعرة التي عندما جاءت جرت معها سعادة العالم بأكمله، وعندما رحلت قطعت كل سلاسل الأحلام، وسحبت من تحتي سجاد الأمان. تلك الشعرة التي ها هي ذي وبعد ستّ سنوات، تعود اليوم لتكسر آخر أعمدة بيتي، وتهدّ السقف عليّ، بعدما اعتقدت أنني في حزيران 82 دفعت ما يكفي من الضريبة لينساني القدر بعض الوقت، بعدما لم يبق شيء واحد قائم في حياتي، يمكن أن أخاف عليه من السقوط.. كنت أجهل حين ذاك المادة الأولى في قانون الحياة: "إن مصير الإنسان إنما هو خلاصة تسلسلات حمقاء.. لا غير". *** كان لبداية صيف 82 طعم المرارة الغامضة، ومذاق اليأس القاتل، عندما يجمع بين الخيبات الذاتية القومية مرّة واحدة. وكنت أعيش بين خبريْن: خبر صمتك المتواصل، وخبر الفجائع العربية. كان قدري يتربّص بي هذه المرة من طريق آخر. فقد جاء اجتياح إسرائيل المفاجئ لبيروت في ذلك الصيف، وإقامتها في عاصمة عربية لعدة أسابيع.. على مرأى من أكثر من حاكم.. وأكثر من مليون عربي.. جاء ينزل بي عدّة طوابق في سلّم اليأس. أذكر أن خبراً صغيراً انفرد بي وقتها وغطّى على بقية الأخبار. فقد مات الشاعر اللبناني خليل حاوي منتحراً بطلقات ناريّة، احتجاجاً على اجتياح إسرائيل للجنوب الذي كان جنوبه وحده، والذي رفض أن يتقاسم هواءه مع إسرائيل.. كان لموت ذلك الرجل الذي لم أكن قد سمعت به من قبل، ألم مميّز فريد المرارة. فعندما لا يجد شاعر شيئاً يحتجّ به سوى موته.. ولا يجد ورقاً يكتب عليه سوى جسده.. عندها يكون قد أطلق النار أيضاً علينا. ذهب قلبي طوال تلك الأيام عند زياد.. كان قديماً يقول: "الشعراء فراشات تموت في الصيف". كان وقتها مولعاً بالروائي الياباني "ميشيما" الذي مات منتحراً أيضاً بطريقة أخرى احتجاجاً على خيبة أخرى.. تراه قالها يومها من وحي أحد عناوين ميشيما: "الموت في الصيف"، أم أنها فكرة مسبقة مادام يدافع عنها بسرد قائمة بأسماء الشعراء الذين اختاروا هذا الموسم ليرحلوا؟ كنت أستمع إليه آنذاك، وأحاول أن أقابل نظرته التشاؤمية للصيف بشيء من السخرية، خشية أن ينقل عدواه إليّ. فأقول له مازحاً: "يمكنني أن أسرد عليك أيضاً عشرات الأسماء لشعراء لم يموتوا في الصيف!". فيضحك ويردّ: "طبعاً.. هناك أيضاً من يموتون بين صيفينْ! " فلا أملك إلا أن أجيبه: "يا لعناد الشعراء.. وحماقتهم!". عاد زياد إلى الذاكرة. ورحت أتساءل فجأة أين يمكن أن يكون في هذه الأيام؟ في أية مدينة.. في أية جبهة.. في أي شارع، وكل الشوارع مطوقة، وكل المدن مقابر جاهزة للموت؟ منذ رحل لم تصلني منه سوى رسالة واحدة قصيرة، يشكرني فيها على ضيافتي. كان ذلك منذ رحيله.. منذ ثمانية أشهر. فماذا تراه أصبح منذ ذلك الحين؟ لم أكن قلقاً عليه حتى الآن. فقد عاش دائماً وسط المعارك والكمائن، والقصف العشوائي. كان رجلاً يخافه الموت أو يحترمه، فلم يشأ أن يأخذه بالجملة. وبرغم ذلك كانت عاطفة غامضة ما توقظ مخاوفي. ورحت أتشاءم وأنا أتذكّر كلامه عن الصيف.. وموت ذلك الشاعر منتحراً. ماذا لو كان الشعراء يقلّدون بعضهم في الموت أيضاً؟ ماذا لو لم يكونوا فراشات فقط؟ لو كانوا مثل حيتان البالين الضخمة يحبّون الموت جماعياً في المواسم نفسها.. على الشطآن ذاتها؟ لقد انتحر (همنغواي) أيضاً صيف 1961 تاركاً خلفه مسودّة روايته الأخيرة "الصيف الخطر". فأية علاقة بين الصيف وبين كلّ هؤلاء الروائيين والشعراء الذين لم يتلاقوا؟ كان لا بد ألا أتعمّق كثيراً في تلك الفكرة، وكأنني أستدرج بها القدر أو أتحداه، فيعطيني في ذلك الصيف تلك الصفعة التي لم أنهض منها بعد، برغم مرور السنوات. *** مات زياد.. وها هو خبر نعيه يقفز مصادفة من مربع صغير في جريدة إلى العين.. ثم إلى القلب.. فيتوقّف الزمن. يتكوّر النبأ غصّة في حلقي، فلا أصرخ.. ولا أبكي. أصاب بشلل الذهول فقط، وصاعقة الفجيعة. كيف حدث هذا؟. وكيف لم أتوقع موته ونظراته الأخيرة لي كانت تحمل أكثر من وداع؟ مازالت حقيبته هنا، في خزانة غرفتي تفاجئني عدة مرات في اليوم وأنا أبحث عن أشيائي. لقد عاد هناك دون أمتعة. أكان يعرف أنه لن يحتاج إلى كثير من الزاد لرحلته الأخيرة، أم كان يفكر في العودة ليستقرّ هنا ويعيش إلى جوارك كما كنت أتوهم تحت تأثير غيرتي؟ لم أسأله يومها عن قراره الأخير. لقد سكن الصمت بيننا في الأيام الأخيرة. وأصبحت أتحاشى الجلوس إليه. وكأنني أخاف أن يعترف لي بأمر أخشاه أو بقرار أتوقعه. لم يقل شيئاً وهو يسافر محمّلاً بحقيبة يد صغيرة. قال لي معتذراً فقط: "ألا يزعجك أن أترك هذه الأيام الحقيبة عندك.. أنت تدري أن مضايقات المطارات كثيرة هذه الأيام، ولا أريد أن أنقل أشيائي مرة أخرى من مطار إلى آخر.." ثم أضاف بما يشبه السخرية: "خاصة أن لا شيء ينتظرني في المطار الأخير!". لم يخطئ حدسه إذن.. لم يكن في انتظاره سوى رصاصة الموت. مازلت أذكر قوله مرة: "لنا في كل وطن مقبرة.. على يد الجميع متنا.. باسم كل الثورات وباسم كلّ الكتب.." ولم تقتله قناعاته هذه المرة.. قتلته هويته فقط! نخب ضحكته سكرت ذلك المساء. نخب حزنه المكابر أيضاً.. ذلك الذي لا يعادله حزن. نخب رحيله الجميل.. نخب رحيله الأخير. بكيته ذلك المساء.. ذلك البكاء الموجع المكابر الذي نسرقه سراً من رجولتنا. وتساءلت أي رجل فيه كنت أبكي الأكثر. ولِمَ البكاء؟ لقد مات شاعراً كما أراد.. ذات صيف كما أراد. مقاتلاً في معركة ما كما أراد أيضاً. لقد هزمني حتى بموته. تذكّرت وقتها تلك المقولة الرائعة للشاعر والرسام "جان كوكتو" الذي كتب يوماً سيناريو فيلم يتصور فيه موته مسبقاً، فتوجه إلى بيكاسو وإلى أصدقائه القلائل الذين وقفوا يبكونه، ليقول لهم بتلك السخرية الموجعة التي كان يتقنها: "لا تبكوا هكذا.. تظاهروا فقط بالبكاء.. فالشعراء لا يموتون. إنهم يتظاهرون بالموت فقط!". وماذا لو كان زياد يتظاهر بالموت فقط؟ لو فعل ذلك عن عناد.. ليقنعني أن الشعراء يموتون حقاً في الصيف ويبعثون في كل الفصول؟ وأنتِ.. تراك تدرين؟ هل أتاك خبر موته؟ أم سيأتيك ذات يوم وسط قصة أخرى وأبطال آخرين؟ وماذا ستفعلين يومها؟ أستبكينه.. أم تجلسين لتبني له ضريحاً من الكلمات، وتدفنيه بين دفّتي كتاب، كما تعودت أن تدفني على عجل كلّ من أحببت وقررت قتلهم يوماً؟ هو الذي كان يكره الرثاء، كراهيته لربطات العنق والبدلات الفاخرة، بأية لغة سترثينه؟ في الواقع.. لقد هزمك زياد كما هزمني. وضعك أمام الحد الفاصل بين لعبة الموت.. والموت. فليس كل الأبطال قابلين للموت على الورق. هنالك من يختارون موتهم وحدهم.. ولا يمكننا قتلهم لمجرد رواية. وكان يكذب.. كبطل جاهز لرواية. كان يكابر ويدّعي أن فلسطين وحدها أمّه. ويعترف أحياناً فقط بعد أكثر من كأس، أن لا قبر لأمه، تلك التي دفنت في مقابر جماعية لمذبحة أولى كان اسمها (تلّ الزعتر). وإنهم أخذوا صوراً تذكارية، ورفعوا علامات النصر ووقفوا بأحذيتهم على جثث.. قد تكون بينها جثّتها. ولحظتها فقط كان يبدو لي أنه يبكي. فَلِمَ البكاء زياد؟ في كل معركة كانت لك جثّة. في كلّ مذبحة تركت قبراً مجهولاً. وها أنت ذا تواصل بموتك منطق الأشياء. فلا شي كان في انتظارك غير قطار الموت. هنالك من أخذ قطار تلّ الزعتر، وهنالك من أخذ قطار (بيروت 82) أو قطار صبرا وشاتيلا.. وهناك من هنا أو هناك، مازال ينتظر رحلته الأخيرة، في مخيّم أو في بقايا بيت، أو في بلد عربي ما.. وبين كلّ قطار وقطار.. قطار. بين كلّ موت وموت.. موت. فما أسعد الذين أخذوا القطار صديقي. ما أسعدهم وما أتعسنا أمام كلّ نشرة أخبار! بعدهم كثرت "وكالات السفريات" و "الرحلات الجماعية". أصبحت ظاهرة عربية يحترفها كلّ نظام على طريقته.. بعدهم أصبح الوطن مجرد محطة. وأصبحت في أعماق كلّ منّا سكّة حديدية تنتظر قطاراً ما.. يحزننا أن نأخذه.. ويحزننا أن يسافر دوننا. رحل زياد إذن.. وإذا بحقيبته السوداء المنسيّة في ركن خزانته، منذ عدة شهور، تغطّي فجأة على كل أثاث البيت، وتصبح أثاثي الوحيد، حتى أنني لا أرى غيرها. عندما أعود إلى البيت. أشعر أنها تنتظرني وأنني على موعد معه. عندما أترك بيتي، أشعر أنني أهرب منها وأنها كانت بلغزها جاثمة على صدري، دون أن أدري. ولكن كيف الهروب منها وهي تتربص بي كل مساء، عندما أطفئ جهاز التلفزيون، وأجلس وحيداً لأدخن سيجارة قبل النوم فيبدأ العذاب.. وأعود إلى السؤال نفسه: ماذا داخل هذه الحقيبة.. وماذا أفعل بها؟ أحاول أن أتذكّر ماذا يفعل الناس عادة بأشياء الموتى. بثيابهم مثلاً وحاجاتهم الخاصة. فتعود (أمّأ) إلى الذاكرة ومعها تلك الأيام المؤلمة التي سبقت وتلت وفاتها. أتذكّر ثيابها وأشياءها، أتذكر (كندورتها) العنابي التي لم تكن أجمل أثوابها، ولكنها كانت أحب أثوابها إليّ. فقد تعودت أن أراها تلبسها في كل المناسبات. كانت الثوب الذي يحمل الأكثر عطرها ورائحتها المميزة، رائحة فيها شيء من العنبر، شيء من عرقها، وشيء شبيه بالياسمين المعتّق. مزيج من عطور طبيعية بدائية، كنت أستنشق معها الأمومة. سألت عن تلك (الكندورة) بعد أيام من وفاة (أمّا) فقيل لي بشيء من الاستغراب إنها أعطيت مع أشياء أخرى للنساء الفقيرات، اللاتي حضرن لإعداد الطعام في ذلك اليوم. صرخت: "إنها لي.. كنت أريدها.." ولكن خالتي الكبرى قالت: "إن أشياء الميت يجب أن تخرج من البيت قبل خروجه منه.. ما عدا بعض الأشياء الثمينة التي يحتفظ بها للذكرى أو للبركة". ومقياس (أمّا).. ذلك السوار الذي لم يفارق معصمها يوماً وكأنها ولدت به، ماذا تراهم فعلوا به؟ لم أجرؤ على السؤال. كان أخي حسّان الذي لم يكن يتجاوز السنوات العشر، لا يعي شيئاً مما يحدث حوله سوى وفاة (أمّا) وغيابها النهائي. وكنت محاطاً بحشد من النساء اللاتي كن يقرّرن كل شيء. كأن ذلك البيت أصبح فجأة لهن: أين (مقياس) أمّا؟ من الأرجح أن يكون قد أصبح من نصيب إحدى الخالات، أو ربما استحوذ عليه أبي مع بقية صيغتها ليقدّمها هدية لعروسه الجديدة. كلما عدت إلى هذه الذكرى وتفاصيلها، ازدادت علاقتي بهذه الحقيبة تعقيداً. فقد كان لبعض الأشياء على بساطتها، قيمة لا علاقة لها بمقاييس الآخرين للتركة والمخلفات. فماذا أفعل بحقيبة تركها صاحبها منذ ثمانية أشهر دون أية وصية أو توضيح خاص.. ومات؟ هل أتصدق بها على الفقراء، مادامت أشياء الموتى يجب أن تلحق بهم، أم أحتفظ بها كذكرى من صديق مادمنا لا نحتفظ إلا بالأشياء الثمينة؟ أهي عبء.. أم أمانة؟ وإذا كانت عبئا.. لماذا أخذتها منه دون مناقشة، لماذا لم أقنعه بحملها معه، بحجة أنني قد أترك باريس مثلاً؟ وإذا كانت أمانة.. ألم تتحول بموت صاحبها إلى وصية. فهل نتصدّق بوصايا الشهداء.. هل نضعها عند بابنا هدية لأول عابر سبيل؟ وكنت أدري خلال تلك الأيام التي عشتها مسكوناً بهاجس تلك الحقيبة أنني أرهق نفسي هباءً، وأن محتواها وحده يمكن أن يحدد قيمتها وصفتها، ويحدد بالتالي ما يمكن أن أفعله بها. ولذا بدأت أخافها فجأة، أنا الذي لم أكن أعيرها اهتماماً من قبل. ترى أكان موت زياد هو الذي أضفى عليها ذلك الطابع المربك، أم أنني في الحقيقة، كنت أخاف أن تحمل لي سرّك، تحمل شيئا عنك كنت أخاف أن أعرفه؟ *** كان لا بد أن أفتح تلك الحقيبة.. لأغلق أبواب الشكّ. أخذت ذلك القرار ذات ليلة سبت، بعد مرور أسبوع على قراءتي خبر استشهاد زياد. كان هناك احتمال آخر فقط، لا يخلو من الحماقة، كأن آخذها إلى مقر المنظمة وأسلّمها لأحدهم هناك، ليتكفّل بإرسالها إلى أقرباء زياد في لبنان أو في مكان آخر.. ولكنني عدلت عن هذه الفكرة الساذجة وأنا أتذكّر أنه لم يعد لزياد من أهل في لبنان. فلمن سيسلّمها هؤلاء.. وعند أية قبيلة وأية فصيلة سينتهي مصيرها؟ من سيكون "أبوها".. وهنالك أكثر من "أبو" يعتقد أنه ينفرد وحده بأبوّة القضية الفلسطينية، وأنه الوريث الشرعي الوحيد للشهداء.. وأن الآخرين خونة؟ ومن أدراني على يد من مات زياد؟ على يد المجرمين "الإخوة".. أم على يد المجرمين الأعداء؟ أما كان يقول: "لقد حوّلوا "القضية" إلى قضايا.. حتى يمكنهم قتلنا تحت تسمية أخرى غير الجريمة.." فبأية رصاصة مات زياد.. وخيرة الشباب الفلسطيني قتل برصاص فلسطيني.. أو عربي لا غير؟ في ذلك المساء.. ارتجفت يدي وأنا أفك أقفال تلك الحقيبة. شيء ما جعلني أتذكّر أنني أملك يداّ واحدة. لم تكن الحقيبة مغلقة بمفتاح ولا بأقفال جانبية. وكأنه تعمّد أن يتركها لي شبه مفتوحة كما يترك أحد الباب موارباً، في دعوة صامتة للدخول. شعرت بشيء من الارتياح لهذه "الالتفاتة"، ولهذا الإذن السابق أو المتأخر عن أوانه، الذي منحه لي زياد لدخول عالمه الخاص دون إحراج.. تراه فعل ذلك لأنه كان يكره الأقفال المخلوعة، والأبواب المفتوحة عنوة كراهيته للمخبرين ولأقدام العسكر؟ أم لأنه كان يتوقّع يوماً كهذا؟ كل هذه الافتراضات لم تمنع قشعريرة من أن تسري في جسدي، وفكرة أخرى تعبرني.. لقد كان يعرف مسبقاً أنه ذاهب إلى الموت. وهذه الحقيبة كانت معدّة لي منذ البداية. وكان بإمكاني أن أفتحها منذ عدة شهور. فهي لم تعد موجودة بالنسبة إليه منذ أن غادر هذا البيت. إنها طريقته في قطع جذور الذاكرة.. كالعادة. رفعت النصف الفوقي للحقيبة، بعد أن وضعتها على طرف السرير.. وألقيت نظرة أولى على ما فيها. وإذا بالموت والحياة يهجمان عليّ معاً، وأنا أرى ثيابه أمامي، ألمس كنزته الصوفية الرمادية، وجاكيته الجلدي الأسود الذي تعوّدت أن أراه به.. ها أنا أملك حجة حضوره، وحجة موته.. وحجة حياته. وها هي رائحة الحياة والموت تنبعثان معاً وبالقوة نفسها من ثنايا تلك الحقيبة. ها أنا معه ودونه.. أمام بقاياه. ثياب.. ثياب.. أغلفه خارجية لكتاب بشريّ. واجهة قماشية لمسكن من زجاج. انكسر المسكن وظلّت الواجهة، ذاكرة مثنية في حقيبة، فلماذا ترك لي الواجهة؟. بين الثياب قميص حريري سماوي اللون، مازال في غلافه اللامع الشفاف.. لم يفتح بعد. أستنتج دون جهد أنه هدية منك. ثم ثلاثة أشرطة موسيقية، أحدها لتيودوركيس، والأخرى مقطوعات كلاسيكية أضعها جانباً وأنا أتذكر أن زياد كلما سافر ترك لي أشرطة وكتباً.. وثياباً.. وحبّاً معلّقاً أيضاً. ولكن هذه هي المرة الأولى التي يترك أشياءه مجموعة في حقيبة، مرتبة بعناية وكأنه أعدها لنفسه وجمع فيها مل ما يحب استعداداً لسفر ما. كأنه أراد أن يأخذها معه حيث سيذهب وحيث كان يريد أن يرتدي جاكيته الأسود المفضّل.. ويستمع إلى موسيقى تيودوركيس! وفجأة تقع يدي على روايتك أسفل الحقيبة. فأصاب بهزّة أولى. ترتعش يدي، تتوقف لحظات قبل أن تمسك بالكتاب. أجلس على طرف السرير قبل أن أفتحه. وكأنني سأفتح طرداً ملغوماً. أتصفح الكتاب بسرعة. وكأنني لا أعرفه. ثم أتذكّر شيئاً.. وأركض إلى الصفحة الأولى بحثاً عن الإهداء، فتقابلني ورقة بيضاء.. دون كلمة واحدة. دون توقيع أو إهداء. فأشعر بنوبة حزن تشلّ يدي، وبرغبة غامضة للبكاء. لمن منّا أهديت نسختك المزوّرة؟ وكلانا يملك نسخة دون توقيع؟ من منا أوهمته أنه يسكن الصفحات الداخلية للكتاب_ كما يسكن قلبك_ وأنه ليس في حاجة إلى إهداء؟ وهل صدّقك زياد.. هل صدّقك _هو أيضاً_ لدرجة أنه قرّر أن يأخذ معه هذه الرواية ليعيد قراءتها، حيث سيذهب.. هناك! كانت تلك الصفحة البيضاء كافية لإدانتك. كانت تقول بالكلمات التي لم تكتب، أكثر مما كان يمكن أن تكتبي.. فهل كان مهماً بعد ذلك ألا أجد أية رسالة لك في تلك الحقيبة؟ لقد كنتِ امرأة تتقن الكتابة على بياض.. ووحدي كنت أعرف ذلك. ما عدا روايتك لم أجد سوى مفكرة سوداء متوسطة الحجم موضوعة أسفل الحقيبة_أيضاً_ كسرّ عميق. ما كدت أرفعها حتى وقعت منها "البطاقة البرتقالية" التي كان يستعملها زياد للتنقلّ بالميترو. داخلها قصاصة بتاريخ (أكتوبر) الشهر الأخير الذي رحل فيه. أنظر على تلك البطاقة على عجل، وأنا لا أفكر إلا في الإطلاع على تلك المفكرة. ولكن صورته تستوقفني.. مربكة صور الموتى.. ومربكة أكثر صور الشهداء. موجعة دائماً. فجأة يصبحون أكثر حزناً وأكثر غموضاً من صورتهم. فجأة.. يصبحون أجمل بلغزهم، ونصبح أبشع منهم. فجأة.. نخاف أن نطيل النظر إليهم. فجأة.. نخاف من صورنا القادمة ونحن نتأمّلهم! كَمْ كان وسيماً ذاك الرجل. تلك الوسامة الغامضة المخفيّة التي لا تفسير لها. ها هو حتى في صورة سريعة تلتقط له في ثلاث دقائق، بخمسة فرنكات، يمكنه أن يكون مميزا. يمكنه أن يكون حتى بعد موته مغرياً، بذلك الحزن الغامض الساخر. وكأنه يسخر من لحظة كهذه. وأفهم مرة أخرى أن تكوني أحببته. لقد أحببته قبلك بطريقة أخرى. كما نحب شخصاً نعجب به ونريد أن نشبهه، لسبب أو لآخر. فنكثر من الجلوس إليه والخروج برفقته والظهور معه. وكأننا نعتقد في أعماقنا أن الجمال والجنون والموهبة والصفات التي تبهرنا فيه قد تكون قابلة للعدوى والانتقال إلينا عن طريق المعاشرة. أية فكرة حمقاء كانت تلك! لم أكتف أنها كانت سبب كارثتي إلا مؤخراً. عندما قرأت قولاً رائعاً لكاتب فرنسي (رسام أيضاً..) "لا تبحث عن الجمال..لأنك عندما تجده، تكون قد شوّهت نفسك!" ولم أكن فعلت شيئاً غير هذه الحماقة. أعدت بطاقته وصورته إلى الحقيبة، ورحت أقلّب تلك المفكرة.. كنت أشعر أنها تحمل شيئاً قد يفاجئني، قد يعكر مزاجي ويشرع الباب للعواصف المتأخرة عن مواسمها. فماذا تراه كتب في هذا الدفتر؟ كنت أدري أن الحقيقة تولد صغيرة دائماً. وكنت أشعر أن الحقيقة هنا كانت صغيرة في حجم مفكرة جيب. فخفت المفكرة.. بحثت عن سيجارة أشعلها. واستلقيت على ذلك السرير لأتصفح جرحي على مهل.. كانت الصفحات تتالى مليئة بالمقاطع الشعرية المبعثرة بين تاريخ وآخر. بالكتابات الهامشية.. ثم بقصائد أخرى تشغل وحدها أحياناً صفحتين أو ثلاثاً. ثم خواطر قصيرة من بضعة سطور مكتوبة وسط الصفحة بلون أحمر دائماً.. وكأنه كان يريد أن يميزها عن بقية ما كتب. ربما لأنها لم تكن شعراً وربما لأنها كانت أهم من الشعر. من أين أبدأ هذه المفكرة؟.. من أي مدخل أدخل هذه الدهاليز السرية لزياد، التي حلمت دائماً بالتسلل إليها عساني أكتشفك فيها؟ كانت العناوين تستوقفني، فأبدأ في قراءة قصيدة. أحاول فك لغز الكلمات المتقاطعة.. أبحث عنك وسط الرموز تارة، ووسط التفاصيل الأكثر اعترافاً أحياناً أخرى. ثم لا ألبث أن أتركها وألهث مسرعاً إلى صفحة أخرى، بحثاً عن حجج أخرى، عن إيضاحات أكثر، عن كلمات تقول لي بالأسود والأبيض.. ما الذي حدث. ولكنني كنت في الواقع على درجة من الانفعال والأحاسيس المتطرفة المتناقضة التي كانت تكاد تشلّ تفكيري، وتجعلني عاجزا عن التمييز بين ما أقرأ وما أتوهم قراءته. كان منظر تلك الحقيبة المفتوحة أمامي بأشيائها المبعثرة، وبذلك الدفتر الأسود الصغير الذي كنت ممسكاً به تجعلني أخجل من نفسي في تلك اللحظة. وكأنني بفتحها لم أفعل شيئاً غير تشريح جثّة زياد المبعثرة بأشيائها وأشلائها على سريري، لأخرج منها هذا الدفتر الذي هو قلبه لا غير. قلب زياد الذي نبض يوماً لك، والذي هاهو اليوم حتى بعد موته بواصل نبضه بين يديّ على وقع الكلمات المشحونة حسرة وخوفاً.. حزناً.. وشهوة.. "على جسدي مررّي شفتيك فما مرّروا غير تلك السيوف عليّ أشعليني أيا امرأة من لهب يقرّبنا الحب يوماً يباعدنا الموت يوماً ويحكمنا حفنة من تراب.. تقرّبنا شهوة للجسد ثم يوماً يباعدنا الجرح لمّا يصير بحجم جسد توحدت فيك أيا امرأة من تراب ومرمر سقيتك ثم بكيت وقلت.. أميرة عشقي.. أميرة موتي تعالي!؟ كم من مرة قرأت هذا المقطع. بأحاسيس جديدة كل مرة، بشكٍّ جديد كل مرة، وتساءلت بعجز من لا يحترف الشعر.. أين ينتهي الخيال.. وأين يبدأ الواقع؟ أين يقع الحد الفاصل بين الرمز والحقيقة؟ كانت كل جملة تلغي التي سبقتها. وكانت المرأة هنا جسداً ملتحماً بالأرض إلى حد لم يعد فيه الفصل أو التمييز بينهما ممكناً. ولكن كانت هناك كلمات لا تخطئ بواقعيتها وبشهوتها المفضوحة: "مرري على جسدي شفتيك" "أشعليني أيا امرأة من لهب" "تقربنا شهوة للجسد" "توحدت فيك" أكانت الثورة إذن حشواً من الكلمات لا أكثر برّأ بها زياد نفسه؟ كان يفضّل أن يهزمه الموت ولا تهزمه امرأة. قضيّة كبرياء.. مراوغة شخصية.. "أميرة موتي.. تعالي..". ها هو الموت جاء أخيراً. وأنت تراك جئت في ذلك اليوم؟ هل انفرد بك حقاً.. أمرّرت على جسده شفتيك.. أأشعلته.. أتوحّد فيك.. وهل..؟ من الأرجح أن يكون ذلك قد حصل. فتاريخ هذه القصيدة يصادف تاريخ سفري إلى إسبانيا. كان القلب قد بدأ يطفح بعاطفة غريبة لا علاقة لها بالغيرة. نحن لا نشعر بالغيرة من الموات.. ولكننا لا يمكن أن نغيّر طعم المرارة في هذه الحالات. فهل أمنع عيني اللتين يستوقفهما اللون الأحمر، من أن تقرأ هذه الخاطرة.. دون دموع. "لم يبق من العمر الكثير أيتها الواقفة في مفترق الأضداد أدري.. ستكونين خطيئتي الأخيرة أسألك. حتى متى سأبقى خطيئتك الأولى لك متّسع لأكثر من بداية وقصيرة كل النهايات. إني أنتهي الآن فيك فمن يعطي للعمر عمراً يصلح لأكثر من نهاية!" تستوقفني بعض الكلمات، وتستدرجني إلى الذهول.. ويأخذ الحبر الأحمر فجأة لوناً شبيهاً بدم وردي خجول يتدحرج على ورق.. ليصبح لون "خطيئتك الأولى..". فأسرع بإغلاق تلك المفكرة وكأنني أخاف إن أنا واصلت قلب الصفحات، أن أفاجئكما في وضعٍ لم أتوقعه! يحضرني كلام قاله زياد مرة في زمن بعيد.. بعيد. قال: "أنا أكنّ احترماً كبيراً لآدم، لأنه يوم قرر أن يذوق التفاحة لم يكتف بقضمها، وإنما أكلها كلّها. ربما كان يدري أنه ليس هناك من أنصاف خطايا ولا أنصاف ملذّات.. ولذلك لا يوجد مكان ثالث بين الجنة والنار. وعلينا _تفادياً للحسابات الخاطئة_ أن ندخل إحداهما بجدارة!" كنت آنذاك معجباً بفلسفة زياد في الحياة. فما الذي يؤلمني اليوم في أفكار شاطرته إياها؟ ترى كونه سرق تفاحته هذه المرة من حديقتي السرية؟ أم كونه راح يقضمها أمامي.. بشهية من حسم اختياره وارتاح؟ "لا تملك الأشجار إلا أن تمارس الحب واقفة أيضاً يا نخلة عشقي.. قفي وحدي حملت حداد الغابات التي أحرقوها ليرغموا الشجر على الركوع "واقفة تموت الأشجار" تعالي للوقوف معي أريد أن أشيّع فيك رجولتي إلى مثواها الأخير.." فجأة بدأت أشعر بحماقة فتح تلك المفكرة. أتعبتني تأويلاتي الشخصية لكل كلمة أصادفها. وبدأت أشعر بالندم. فأنا برغم كل شيء لا أريد أن أكره زياد اليوم. لا أستطيع ذلك. لقد منحه الموت حصانة ضد كراهيتي وغيرتي. وها أنا صغير أمامه وأمام موته. ها أنا لا أملك شيئاً لإدانته، سوى كلماته القابلة لأكثر من تأويل. فلماذا أصرّ على تأويلها الأسوأ؟ لماذا أطارده بكل هذه الشبهات، وأنا أدري أنه شاعر يحترف الاغتصاب اللغوي، نكاية في العالم الذي لم يخلق على قياسه، بل ربما خلق على حسابه. فهل أطلق النار عليه بتهمة الكلمات؟ لقد ولد هكذا واقفاً.. ولا قدر له سوى قدر الأشجار. فهل أحاسبه حتى على طريقة موته.. وعلى طريقة حبّه؟ وأذكر الآن أنني عرفته واقفاً. أذكر ذلك اليوم الذي زارني فيه في مكتبي لأول مرة، عندما أبديت له بعض ملاحظاتي عن ديوانه، وطلبت منه أن يحذف بعض القصائد. أذكر صمته، ثم نظرته التي توقفت بعض الوقت عند ذراعي المبتورة، قبل أن يقول تلك الجملة التي كانت بعد ذلك سبباً في تغيير مجرى حياتي. قال لي: "لا تبتر قصائدي..سيدي، ردّ لي ديواني. سأطبعه في بيروت.." لماذا قبلت إهانته يومها، دون رد؟ لماذا لم أصفعه بيدي الثانية غير المبتورة وأرمي له بمخطوطه؟ ألأنني احترمت فيه شجاعة الأشجار ووحدتها، في زمن كانت فيه الأقلام سنابل تنحني أمام أول ريح؟ واقفاً عرفت زياد.. وواقفاً غادرني. أما مخطوط تركني كأول مرة. ولكن دون أيّ تعليق هذه المرة. لقد أصبح بيننا _منذ ذلك الحين_ تواطؤ الغابات... واليوم صمتها. فجأة استيقظت داخلي بقايا مهنة سابقة. ورحت أقلّب ذلك الدفتر وأعدّ صفحاته وأتصفحها بعيني ناشر. وإذ بحماس مفاجئ يدبّ في قلبي ويغطّي على بقية الأحاسيس. وقرار جنوني يسكنني. سأنشر هذه الكتابات في مجموعة شعرية، قد أسمّيها "الأشجار" أو "مسودات رجل أحبك".. أو عنواناً آخر قد أعثر عليه أثناء ذلك. المهم.. أن تصدر هذه الخواطر الأخيرة لزياد. أن أمنحه عمراً آخر لا صيف فيه.. فهكذا ينتقم الشعراء دائماً من القدر الذي يطاردهم كما يطارد الصيف الفراشات.. إنهم يتحوّلون إلى دواوين شعر. فمن يقتل الكلمات؟ *** أنقذني دفتر زياد من اليأس دون أن أدري.. منحني مشاريع لأيام كانت فارغة من أي مشروع. فقد حدث في تلك الأيام أن قضيت ساعات بأكملها وأنا أنسخ قصيدة، أو أبحث عن عنوان لأخرى، وأحاول ترتيب فوضى تلك الخواطر والمقاطع المبعثرة، لوضعها في سياق صالحٍ للنشر. كنت أشعر بلذّة ومرارة معاً.. لذّة الانحياز للفراشات، وبعث الحياة في كلماتٍ وحدي أملك حق وأدها في مفكرة، أو منحها الخلود في كتاب. ومرارة أخرى.. مرارة التنقيب في أوراق شاعر مات، والتجول في دورته الدموية، في نبضه وحزنه ونشوته، ودخول عالمه المغلق السري دون تصريح ولا رخصة منه، والتصرف نيابة عنه في الاختيار وفي الإضافة والحذف. أحقاً كنت أملك صلاحية كهذه..؟ ومن يمكن أن يدّعي أنه لسبب أو لآخر موكّل بمهمة كهذه؟ ولكن من يجرؤ أيضاً على الحكم بالموت على كلمات الآخرين، ويقرر الاستحواذ عليها وحده؟ كنت أدري في أعماقي، أنه إذا كان لموت الشعراء والكتّاب نكهة حزن إضافية، تميزهم عن موت الآخرين، فربما تُعزى لكونهم وحدهم عندما يموتون يتركون على طاولتهم ككل المبدعين، رؤوس أقلام.. رؤوس أحلام، ومسودات أشياء لم تكتمل. ولذا فإن موتهم يحرجنا.. بقدر ما يحزننا. أما الناس العاديون، فهم يحملون أحلامهم وهمومهم ومشاعرهم فوقهم. إنهم يلبسونها كل يوم مع ابتسامتهم، وكآبتهم، وضحكتهم، وأحاديثهم، فتموت أسرارهم معهم. في البدء، كان سر زياد يحرجني، قبل أن يستدرجني إلى البوح، وإذا بكتاباته تخلق عندي رغبة لا تقاوم للكتابة. رغبة كانت تزداد في تلك المرات التي كنت أشعر أن كلماته لا تطال أعماقي، وأنها أقصر من جرحي. ربما لأنه كان يجهل النصف الآخر للقصة، تلك التي كنت أعرفها وحدي. متى ولدت فكرة هذا الكتاب؟ ترى في تلك الفترة التي قضيتها محاصراً بإرث زياد الشعريّ، في ذلك اللقاء غير المتوقع لي مع الأدب والمخطوطات التي انفصلت عنها منذ انفصالي عن وظيفتي.. منذ عدة سنوات في الجزائر؟ أم في لقائي غير المتوقع الآخر، مع مدينة حجز لي القدر نفسه موعداً متأخراً معها؟ أكان يمكن لي أن أجد نفسي وجهاً لوجه مع قسنطينة، دون سابق إنذار، دون أن تنفجر داخلي الدهشة، شلالات شوق وجنون وخيبة.. فتجرفني الكلمات.. إلى حيث أنا! الفصل الخامس مازلت أذكر ذلك السبت العجيب.. عندما رن الهاتف ذلك المساء بتوقيت نشرة الأخبار. كان سي الشريف على الخط بحرارة وشوق أسعداني في البداية، وأخرجاني من رتابة صمتي الليلي ووحدته. كان صوته عندي عيداً بحد ذاته والصلة الوحيدة التي ظلت تربطني بك، بعدما سدّت كل الطرق الموصلة إليك. وكنت أستبشر خيراً به. إنه يحمل دائماً احتمال لقاءٍ بك بطريقة أو بأخرى. ولكنه هذه المرة كان يحمل لي أكثر من هذا.. راح سي الشريف يعتذر أولاً عن انقطاعه عني منذ سهرتنا الأخيرة، بسبب مشاغله الكثيرة، وزيارات المسؤولين التي لا تتوقف إلى باريس.. قبل أن يضيف: "إنني لم أنسك طوال هذه الفترة.. لقد علّقت لوحتك في الصالون وأصبحت أتقاسم معك البيت.. أتدري، لقد تركت التفاتتك تلك أثراً كبيراً في نفسي، وخلقت لي أكثر من حاسد.. وكل مرة لا بد أن أشرح للآخرين صداقتنا وعلاقتنا التي تعود إلى أيام الشباب". كنت أستمع له وكان القلب قد ذهب بحماقة على عجل إليك.. كان يكفي أن أعرف أن تلك المكالمة تأتي من بيتٍ أنتِ فيه، لأعود عاشقاً مبتدئاً بكل انفعالات العشّاق وحماقاتهم. ولكن صوته أعادني إلى الواقع عندما سألني: - أتدري لماذا طلبتك الليلة؟ إنني قررت أن أصحبك معي إلى قسنطينة.. لقد أهديتني لوحة عن قسنطينة وأنا سأهديك سفرة إليها.. صحت متعجّباً: - قسنطينة.. لماذا قسنطينة؟ قال وكأنه يزفّ لي بشرى: - لحضور عرس ابنة أخي الطاهر.. ثم أضاف بعد شيء من التفكير. - .. ربما تذكرها. لقد حضرت افتتاح معرضك منذ شهور مع ابنتي ناديا.. شعرت فجأة أن صوتي انفصل عن جسدي، وأنني عاجز عن أن أجيب بكلمة واحدة. أيمكن للكلمات أن تنزل صاعقة على شخص بهذه الطريقة؟ أيمكن للجسد أن يصبح إثر كلمة، عاجزاً عن الإمساك بسماعة؟ يحدث في لحظات كهذه، أن أتذكر فجأة أنني أملك يداً واحدة.. سحبت بقدمي كرسياً مجاوراً وحلست عليه. وربما لاحظ سي الشريف صمتي وحدوث شيء ما.. فقطع ذهولي قائلاً: - يا خويا.. ما الذي يخيفك في سفرٍ كهذا؟ لقد جاء ذكرك منذ أيام في جلسة مع بعض الأصدقاء في الأمن، وأكدوا لي أنه لا توجد أية تعليمات في شأنك، وأن بإمكانك أن تزور الجزائر متى شئت. لقد تغيرت الأمور كثيراً منذ مجيئك، ولا بد أن تعود إلى الجزائر ولو في زيارة خاطفة.. إنني أتحمل مسؤولية عودتك.. ستسافر معي وعلى حسابي.. فما الذي يقلقك إلى هذا الحد؟ أجبته وأنا أبحث عن مخرج لتوتري: - الحقيقة أنني لست مستعداً نفسياً بعد لزيارة كهذه.. وأفضّل أن تكون في ظروف أخرى.. قال: - أنت لن تجد ظروفاً أحسن من هذه للعودة.. أنا واثق من أنني إذا لم أجرّك هكذا من يدك هذه المرة، فقد تمضي عدة سنوات أخرى قبل أن تعود إليها. هل ستقضي عمرك في رسم قسنطينة؟ ثم ألا يسعدك حضور زواج ابنة سي الطاهر؟ إنها ابنتك أيضاً، لقد عرفتها طفلة ويجب أن تحضر عرسها للبركة.. افعل هذا لوجه أبيها، يجب أن تقف معي في ذلك اليوم مكان سي الطاهر.. كان سي الشريف يعرف نقطة ضعفي، ويدري مكانة سي الطاهر عندي. فراح يحرّك ما تبقّى داخلي من وفاء لماضينا وذاكرتنا المشتركة. كان في ذلك الموقف شيء من السريالية واللامعقول. كنت أقف على الحد الفاصل بين العقل والجنون، بين الضحك والبكاء.. "لقد عرفتها طفلة.." لا يا صديقي! عرفتها أنثى أيضاً وهذه هي المشكلة. "إنها ابنتك أيضاً.." لا لم تكن ابنتي، كان يمكن فقط أن تكون زوجتي.. كان يمكن أن تكون لي. سألته: - لمن ستكون؟ قال: - أعطيتها لـ (سي....) لقد سهرت معه المرة الماضية.. لا أدري ما رأيك فيه، ولكنني أعتقد أنه رجل طيب برغم ما يُقال عنه. كان في جملته الأخيرة جواب مسبق على ردٍ كان يتوقعه. (سي....) إذن ولا أحد غيره! "رجل طيب.." هل الطيبة هي حقاً صفته المميزة الأولى؟ أعرف أنا أكثر من رجل طيب كان يمكن إذن أن يصبح زوجها. ولكن (سي....) كان أكثر من ذلك. كان رجل الصفقات السرية والواجهات الأمامية. كان رجل العملة الصعبة والمهمات الصعبة. كان رجل العسكر.. ورجل المستقبل. فهل مهم بعد هذا أن يكون طيباً أو لا يكون؟ تجمعت في الحلق أكثر من غصة، منعتني من أن أبدي رأيي فعلاً في ذلك الشخص، وأسأل سي الشريف سؤالاً واحداً فقط: تراه يعتقد حقاً أن بإمكان رجل لا أخلاق له.. أن يكون طيباً؟ أم تراني صمتّ لأنني كنت بدأت لا أفرق كثيرا بينه وبين "صهره" وأنا أسأل نفسي سؤالاً آخر.. هل يمكن لشخص يتصاهر مع رجل قذر.. أن يكون نظيفاً حقاً؟ فقدت فجأة شهية الكلام. أخرستني الصدمات المتتالية في مكالمة واحدة. فاختصرت كل الكلام في جملة واحدة قابلة لأكثر من تفسير: - كل شيء مبروك.. رد سي الشريف حسب التقاليد: - الله يهنيك.. ويبارك فيك.. ثم أضاف بسعادة من نجح في امتحان: -إذن سنراك..راني نعوّل عليك.. سنسافر بعد عشرة أيام تقريباً فالزواج سيكون في 15 يوليو.. أطلبني هاتفياً كي نتّفق على تفاصيل سفرك. انتهت المكالمة، وبدأت مرحلة جديدة من حياتي. بدأ عمري الآخر الذي أعلنت يومها رسمياً خروجك منه. ولكن.. هل خرجت حقاً؟ أحسست أن رقعة الشطرنج أصبحت فارغة إلا مني. كانت كل المربعات بلون واحد لا غير.. وكل القطع أصبحت قطعة واحدة أمسكها وحدي.. بيدٍ واحدة! فهل كنت الرابح أم الخاسر الوحيد.. كيف لي أن أعرف ذلك؟ لقد تقلصت الرقعة، ومعها مساحة الأمل والترقب، حسمها طرف آخر، كنا نلعب جميعاً منذ البدء نيابة عنه: إنه القدر! كنت أحقد على ذلك القدر أحياناً، ولكن كنت كثيراً ما أستسلم له دون مقاومة. بلذّة غامضة وبفضول رجل يريد أن يعرف كلّ مرة، إلى أي حد يمكن لها القدر أن يكون أحمق، ولهذه الحياة أن تكون غير عادلة، وأن تكون عاهرة لا تهب نفسها سوى لذوي الثروات السريعة، ولأصحاب السلوك المشبوه الذين يغتصبونها على عجل.. وعندها كنت أجد سعادتي النادرة في مقارنة نفسي بتفاهة الآخرين. وأجد في هزائمي الذاتية، دليلاً على انتصارات أخرى ليست في متناول الجميع. تراني في لحظة جنون كهذه قبلت أن أحضر عرسك، وأن أكون شاهداً على مأتمي، وعلى الحقارة التي يمكن أن يصلها البعض دون خجل؟ أم تراني ككل المبدعين، كنت مازوشيّاً بتفوق، وأصرّ في غياب السعادة المطلقة، أن أعيش حزني المطلق، وأن أذهب معك إلى أبعد نقطة في تعذيب النفس، فأمارس كيّ هذا القلب بنفسي ليشفى منك؟ كرهتك ذلك اليوم بشراسة لم أكن عرفتها من قبل. انقلبت عواطفي مرة واحدة إلى عاطفة جديدة، فيها مزيج من المرارة والغيرة والحقد.. وربما الاحتقار أيضاً. ما الذي أوصلك هنا؟ وهل النساء حقاً مثل الشعوب، يشعرن دائماً بإغراء.. وبضعف ما تجاه البدلات العسكرية.. حتى الباهتة منه؟! ما زلت حتى اليوم أتساءل.. كيف قبلت يومها أن أذهب إلى قسنطينة لحضور عرسك؟ كنت أعرف مسبقاً أن دعوتي لم تكن مجرد نية حسنة، والتفاتة ود وصداقة لرجل تجمعني به أكثر من قرابة. ولكن كانت قبل كلّ شيء، استغلالاً للذاكرة واستعمالاً سيئاً لاسم من الأسماء القليلة التي ظلّت نظيفة في زمن انتشر فيه وباء القذارة. كان سي الشريف يدري أنه يسقوم بصفقة قذرة، وأنه يبيع بزواجه اسم أخيه، وأحد كبار شهدائنا مقابل منصب وصفقات أخرى.. وأنه يتصرف باسمه، بطريقة لم يكن ليقبلها لو كان حياً. وكان يلزمه أنا.. ولا أحد غيري لأبارك اغتصابك، أنا صديق سي الطاهر الوحيد ورفيق سلاحه. أنا الهيكل المفتت الأطراف الأخير، الذي بقي من ذلك الزمن الغابر. كانت تلزمه مباركتي، ليُسكت بحضوري ضميره ويعتقد أن سي الطاهر سيغفر له، هو الذي عاش من اسمه طويلاً. فلماذا قبلت الدخول في تلك اللعبة؟ لماذا قبلت دون نقاش أن أسلمك لأظافرهم؟ ألأنني أدري أن مباركتي قضية شكلية، لن تقدم ولن تؤخر في شيء، وأنه لو لم يزوّجك من (سي....) لكنت من نصيب (سي....) آخر من السادة الجدد. فماذا يهم في النهاية، أي اسم من أسماء الأربعين لصاً ستحملين! لماذا قبلت السفر.. ألكل هذا أم لأنني استسلمت لإغراء قسنطينة، ولندائها السرّي الذي كان يلاحقني ويطاردني من الأزل، كما يطارد نداء الحوريات في الجزر المسحورة أولئك البحارة الذين نزلت على بواخرهم لعنة الآلهة.. أم تراني كنت عاجزاً عن أن أخلف موعداً معك، حتى ولو كان ذلك مناسبة زواجك؟ هنالك قرارات وليدة ضدها، فكيف يمكن لي اليوم أن أفسّر قراراً أخذته خارج المنطق؟ كنت كعالم فيزيائي مجنون، يريد أن يجمع بين صيغتين متفجّرتين في الوقت نفسه: أنت.. وقسنطينة، صيغتين صنعتهما بنفسي في نوبة شوق وعشق وجنون، قست قدرتهما التدميرية كلا على انفراد، وأردت أن أجربهما معاً كما تجرّب قنبلة ذرية في صحراء. أردت أن أعيشهما معاً في انفجار داخلي واحد.. يهزّني وحدي.. يدمرني وحدي.. وأخرج بعده من وسط الحرائق والدمار، إما رجلاً آخر.. وأشلاء رجل. ألم تقولي مرة إن هناك رغبة سرية تسكننا جميعاً اسمها "شهوة اللهب"؟ اكتشفت بعدها بنفسي التطابق بينك وبين تلك المدينة. كان فيكما معاً، شيء من اللهيب الذي لم ينطفئ.. وقدرة خارقة على إشعال الحرائق.. ولكنكما معاً، كنتما تتظاهران بإعلان الحرب على المجوس. إنه زيف المدن العريقة المحترمة.. ونفاق بنات العائلات.. أليس كذلك؟ *** جاء صوتك يوم الاثنين هكذا دون مقدمات. دون أية نبرة حزن أو فرح مميزة.. دون ارتباك ولا أي خجل واضح. ورحت تتحدّثين إليّ، وكأنك تواصلين حديثاً بدأناه البارحة، كأن صوتك لم يعبر هذا الخط الهاتفي منذ أكثر من ستّة أشهر. ما أغرب علاقتك بالزمن.. وما أغرب ذاكرتك! - أهلاً خالد.. هل أيقظتك؟ كان يمكن أن أقول لا، وكان من الأصح أن أقول نعم. ولكنني قلت بصوت من يخرج من غيبوبة عشق: - أنتِ..؟! ضحكت.. تلك الضحكة الطفولية التي أسرتني يوماً وقلت: - أعتقد أنني أنا.. هل نسيت صورتي؟! ثم أضفت أمام صمتي: - كيف أنت؟ - أحاول أن أصمد.. - تصمد في وجه من.؟ - في وجه الأيام.. قلت بعد شيء من الصمت.. وكأنك شعرت بذنبٍ ما: - كلنا نحاول ذلك.. ثم أضفتِ: - هل أخباري هي التي أزعجتك؟ عجيب سؤالك. عجيب كذاكرتك. كعلاقتك بمن تحبّين! قلت: - أخبارك ليست سوى جزء من تقلّبات الأيام. أجبت ببراءة كاذبة: - كنت أتوقع أن تستقبل خبر زواجي بطريقة أخرى. لقد سمعت عمي يتحدث إليك أمس على الهاتف، وتعجبت أن تكون قبلت المجيء إلى قسنطينة دون مناقشة أو تردد. لقد أسعدني ذلك كثيراً، وقررت أن أطلبك.. استنجت أنك لم تعد عاتباً عليّ.. فأنا أريد أن تحضر إلى هذا العرس.. من الضروري أن تحضر.. لا أدري لماذا أعادتني كلماتك إلى مكالمتي السابقة مع سي الشريف، وإلى ذلك الموقف العجيب، عندما كان يقنعني أنك ابنتي. شعرت مرة أخرى أنني أقف على الحد الفاصل بين العقل واللاعقل، بين البكاء والضحك.. سألتك بشيء من المرارة الساخرة: - أتمنى أن أفهم سر إصراركم جميعاً على حضوري.. قلتِ: - سبب إصرار عمي على حضورك لا يهمني إطلاقاً. ولكنني أدري أنني سأكون تعيسة لو تغيّبت عن المجيء.. أجبتك بتهكم: - هل السادية .. آخر هواياتك؟ قلتِ بنبرة فاجأتني: - لقد أحببت هذه المدينة من أجلك. أجبتك بتلك الطريقة نفسها التي أجبتني بها يوماً، وأنا أعترف لك "لقد أحببتك يوم قرأتك" فقلتِ "كان ينبغي ألا تقرأني..". قلتُ: - كان ينبغي ألا تحبّيها إذن.. وإذا بجوابك يدهشني.. يوقظني.. ويبثّ شحنة كهربائية في جسدي.. - ... ولكنني أحببتك! ها هي الكلمة التي انتظرتها عاماً دون جدوى. فهل أشكرك أم أبكي. أم أسألك لماذا اليوم.. لماذا الآن.. ولماذا كلّ هذا العذاب إذن؟ سألتك فقط: - وهو؟ أجبتني وكأنك تتحدّثين عن شيء لا يعنيك تماماً: - إنه قدر جاهز. قاطعتك: - لكل شخص القدر الذي يستحقّه. كنت أتوقع قدراً غير هذا.. كيف قبلت أن ترتبطي به؟ قلتِ: - أنا لا أرتبط به.. أنا أهرب إليه فقط من ذاكرة لم تعد تصلح للسكن، بعدما أثثتها بالأحلام المستحيلة والخيبات المتتالية.. - ولكن لماذا هو.. كيف يمكن أن تمرّغي اسم والدك في مزبلة كهذه.. أنت لست امرأة فقط، أنت وطن، أفلا يهمّك ما سيكتبه التاريخ يوماً؟ أجبتِ بشيء من السخرية المرة: - وحدك تعتقد أن التاريخ جالس مثل ملائكة الشر والخير على جانبينا، ليسجّل انتصاراتنا الصغيرة المجهولة.. أو كبواتنا وسقوطنا المفاجئ نحو الأسفل. التاريخ لم يعد يكتب شيئاً. إنه يمحو فقط! لم أسألك ما الذي تريدين محوه بالضبط. ولم أناقشك في نظرتك الخاطئة للقيم.. سألتك: - ما الذي تريدينه مني على التحديد؟ قلتِ كأنك طفلة يسألونها عن أيّ حلوى تريد: - أريدك.. خطر بذهني لحظتها أنك ربما كنت امرأة عاجزة عن حب رجل واحد، وأنه يلزمك دائماً رجلان. كانا في الماضي زياد وأنا. وأصبحا اليوم أنا.. والآخر. عاد صوتك يقول: - خالد.. أتدري أنني أحببتك.. إنه حدث أن أردتك واشتهيتك حدّ الجنون.. شيء فيك جرّدني من عقلي يوماً.. ولكنني قررت أن أشفى منك.. كانت علاقة حبّنا علاقة مرضيّة، أنت نفسك قلت هذا.. سألتكِ: - لماذا عدت اليوم إذن؟ قلتِ: - عدت لأقنعك بالمجيء إلى قسنطينة. أريد أن تباركنا تلك المدينة ولو مرة واحدة.. تباركنا ولو كذباً، لقد تواطأت معنا وأوصلتنا إلى جنوننا هذا.. أدري أننا لن نلتقي فيها.. قد لا نتحدث.. وقد لا نتصافح. ولكن سأكون لك ما دمنا فيها. سنتحداهم على مرأى منها.. ووحدها ستعرف أنني أمنحك ليلتي الأولى.. أيسعدك هذا؟ كم من ليلة أولى كنت تملكين؟ كم من ليلة وهمية أولى كنت قادرة على أن تهبي على بياض، كما وهبتِ روايتك الأولى.. نسختين مزوّرتين لي ولزياد.. موقّعتين على بياض. لمن ستكونين بعد كل ليلة وهمية؟ ومع من بدأت كذبتك الأولى؟ لمن أهديت هديّتك الملغومة الأولى؟ عندما أذكر كلامك اليوم، أضحك وأنا أشبّه نفسي آنذاك بأثيوبي جائع يسردون عليه قائمة من الأطباق الشهية التي لن يذوقها، ويسألونه بعدها كيف وجدها.. وإذا كان ذلك يسعده.. ولكن وقتها لم أضحك، بل ربما بكيت وأنا أجيبك بحماقة عاشق.. "يسعدني..". لم أنتبه إلى أنك كنت تمنحينني ليلةً وهمية، عليّ أن أتنازل عنها مباشرة لرجل آخر، سيستفيد منها فعلياً! ولكن هل يهم ذلك.. مادمت أتنازل عن شيء ليس في جميع الحالات لي؟ هكذا التاريخ دائماً عزيزتي وهكذا الماضي.. ندعوه في المناسبات ليتكفّل بفتات الموائد. نتحايل على الذاكرة، نرمي لها عظمة تتلهى بها، بينما تُنصب الموائد للآخرين. وهكذا الشعوب أيضاً، نهبها كثيراً من الأوهام.. كثيراً من الأحلام المعلّبة، من السعادة المؤجلة، فتغضّ النظر عن الولائم التي لن تدعى إليها.. ولكن لم أعِ كل هذا إلا بعد فوات الأوان. بعدما رفعت الموائد، وانسحب الجميع لأبقى وحدي.. أمام فتات الذاكرة. قلتُ: - أريد أن أراكِ.. صحتِ: - لا.. لم يعد لقاؤنا ممكناً الآن.. وربما كان هذا أفضل. يجب أن نبحث عن نهاية أقل وجعاً لقصّتنا. لتكن قسنطينة لقاءنا وفراقنا معاً.. فلا داعي لمزيد من العذاب. هكذا إذن.. قررت قتلي حسب الأصول، بجرّة سكّين واحدة، ذهاباً وإياباً.. في لقاءٍ وفراقٍ واحد. فما أرأفك بي.. وما أغباني! أكثر من سؤال ظلّ معلّقاً في الحلق، لم أطرحه عليك يومها. أكثر من لوم.. أكثر من عتاب.. أكثر من رغبة.. ولكن هاتفك انتهى كما جاء خارج الزمان، وأنا بين الصحوة واليقظة ممدد بذهول في فراشي. حتى أنني تساءلت بعدها: هل طلبتني حقاً في ذلك الصباح أم أنني حلمت.. فقط؟ ها نحن مثل أطفال إذن.. نمحو كل مرة آثار الطباشير على الأرض لنرسم قوانين لعبة جديدة. نتحايل على كل شيء لنربح كل شيء. فتتّسخ ثيابنا ونصاب بخدوش ونحن نقفز على رِجْل واحدة من مربع مستحيل إلى آخر. كل مربع فخّ نصب لنا، وفي كل مربع وقفنا وتركنا أرضاً شيئاً من الأحلام. كان لا بد أن نعترف أننا تجاوزنا عمر النط على رِجْل واحدة، والقفز على الحبال، والإقامة في مربعات الطباشير الوهيمة. أخطأنا حبيبتي.. الوطن لا يرسم بالطباشير، والحب لا يكتب بطلاء الأظافر. أخطأنا.. التاريخ لا يكتب على سبورة، بيد تمسك طباشير وأخرى تمسك ممحاة.. والعشق ليس أرجوحة يتجاذبها الممكن والمستحيل. دعينا نتوقف لحظة عن اللعب. لحظة عن الجري في كل الاتجاهات. نسينا في هذه اللعبة مَنْ مِنّا القط، ومَن الفأر.. ومن منا سيلتهم مَنْ. نسينا أنهم سيلتهموننا معاً. لم يعد أمامنا متّسع للكذب. لا شيء أمامنا سوى هذا المنعطف الأخير. لا شيء تحتنا غير هاوية الدمار. فلنعترف أننا تحطّمنا معاً. لستِ حبيبتي.. أنتِ مشروع حبي للزمن القادم. أنت مشروع قصّتي القادمة وفرحي القادم.. أنتِ مشروع عمري الآخر. في انتظار ذلك.. أحبّي من شئتِ من الرجال، واكتبي ما شئتِ من القصص.. وحدي أعرف قصّتك التي لن تصدر يوماً في كتاب. وحدي أعرف أبطالك المنسيين وآخرين صنعتهم من ورق. وحدي أعرف طريقتك الشاذة في الحب، طريقتك الفريدة في قتل من تحبين.. لتؤثثي كتبك فقط. أنا الذي قتلتني لعدة أسباب غامضة، وأحببتك لأسباب غامضة أخرى. أنا الرجل الذي حوّلك من امرأة إلى مدينة، وحولته من حجارة كريمة إلى حصى. لا تتطاولي على حطامي كثيراً. لم ينته زمن الزلازل، وما زال في عمق هذا الوطن حجارة لم تقذفها البراكين بعد. دعينا نتوقف لحظة عن اللعب. كفاك كل ما قلته من كذب.. أعرف اليوم أنك لن تكوني لي. دعيني إذن، أنحشر معك يوم الحشر حيث تكونين، لأكون نصفك الآخر. دعيني أحجز مسبقاً مكاناً لي إلى جوارك، ما دامت كل الأماكن محجوزة حولك هنا، وما دامت مفكّرتك ملأى بالمواعيد حتى آخر أيامك.. يا امرأة على شاكلة وطن.. أيهمّ بعد اليوم أن نبقى معاً؟ حقيبة صغيرة فقط لملاقاة الوطن. ولا شي سوى بدلة سوداء لحضور حفل زفافك. زجاجتيْ وسكي.. قمصان.. وشفرات حلاقة. هنالك أوطان تنتج كل مبرّرات الموت، وتنسى أن تنتج شفرات حلاقة! على أصابع الجرح أعود إلى الوطن. دون أمتعة شخصية، دون زيادة في الوزن ولا زيادة في حساب. وحدها الذاكرة أصبحت أثقل حملاً، ولكن من سيحاسبنا على ذاكرة نحملها بمفردنا؟ مشياً على جرحي الأخير أعود إليه على عجل. عشر سنوات من الغياب، وها هوذا الرجوع المفاجئ. كنت أتوقع لقاءً غير هذا.. كنت سأحجز لي مكاناً في الدرجة الأولى مثلاً. فيحدث للذاكرة في مثل هذه المناسبات، أن ترفض الجلوس في الكراسي الخلفية. ولكن، لا يهم سيدتي.. كانت كل الكراسي الأمامية محجوزة مسبقاً، لأولئك الذين حجزوا كراسي الوطن أيضاً بأمر.. فلأعد إليه كما جئت منه إذن، على كرسي جانبي للحزن. نغادر الوطن، محمّلين بحقائب نحشر فيها ما في خزائننا من عمر. ما في أدراجنا من أوراق. نحشر أبوم صورنا، كتباً أحببناها، وهدايا لها ذكرى.. نحشر وجوه من أحببنا.. عيون من أحبّونا.. رسائل كتبت لنا.. وأخرى كنّا كتبناها. آخر نظرة لجارة عجوز قد لا نراها، قبلة على خد صغير سيكبر بعدنا، دمعة على وطن قد لا نعود إليه. نحمل الوطن أثاثاً لغربتنا، ننسى عندما يضعنا الوطن عند بابه، عندما يغلق قلبه في وجهنا، دون أن يلقي نظرة على حقائبنا، دون أن يستوقفه دمعنا.. ننسى أن نسأله من سيؤثثه بعدنا. وعندما نعود إليه.. نعود بحقائب الحنين.. وحفنة أحلام فقط. نعود بأحلام وردية.. لا "بأكياس وردية"، فالحلم لا يستودر من محلات "تاتي" الرخيصة الثمن. عارٌ أن نشتري الوطن ونبيعه حلماً في السوق السوداء. هنالك إهانات أصعب على الشهداء من ألف عملة صعبة! ها أنذا.. بحقيبة يدٍ صغيرة، هنا في اللامكان. في هذه النقطة المعلقة بين الأرض والسماء. والهاربة بي من ذاكرة إلى أخرى. أجلس على مقعد في الدرجة الثانية للنسيان. أحلّق على تضاريس حبّك. على ارتفاع تصعب معه الرؤية، ويصعب معه النسيان. وأتساءل رغم فوات الأوان: تراني أرتكب آخر حماقات عمري، وأهرب منك إلى الوطن؟ أحاول أن أشفى منك به. أنا الذي لم أشف بك منه؟ ها هي اللوحة التي أحضرتها هدية لعرسك تشغل مكانك الفارغ إلى جواري. ها نحن نسافر _ أخيراً معاً _ أنا وأنت.. نأخذ طائرة واحدة لأول مرة. ولكن ليس للرحلة نفسها.. ولا للاتجاه نفسه. ها هي قسنطينة.. ساعتان فقط ليعود القلب عمراً إلى الوراء. تشرع مضيفةٌ باب الطائرة، ولا تتنبّه إلى أنها تشرع معه القلب على مصراعيه. فمن يوقف نزيف الذاكرة الآن؟ من سيقدر على إغلاق شبّاك الحنين، من سيقف في وجه الرياح المضادة، ليرفع الخمار عن وجه هذه المدينة.. وينظر إلى عينها دون بكاء. ها هي قسنطينة إذن.. وها أنذا أحمل بيدي الوحيدة حقيبة يد، ولوحة تسافر معي سفرها الأخير، بعد خمس وعشرين سنة من الحياة المشتركة. ها هي "حنين"، النسخة الناقصة عن قسنطينة، في لقاء ليليّ مع اللوحة الأصل.. تكاد مثلي تقع من على سلّم الطائرة تعباً.. ودهشة.. وارتباكاً. تتقاذفنا النظرات الباردة المغلقة، تتقاذفنا العبارات التي تنهى وتأمر. وكل هذه الوجوه المغلقة، وكل هذه الجدران الرمادية الباهتة.. فهل هذا هو الوطن؟ قسنطينة.. كيف أنتِ يا اميمة.. واشك؟ أشرعي بابك واحضنيني.. موجعة تلك الغربة.. موجعة هذه العودة.. باردٌ مطارك الذي لم أعد أذكره. باردٌ ليلك الجبلي الذي لم يعد يذكرني. دثّريني يا سيدة الدفء والبرد معاً. أجلي بردك قليلاً.. أجّلي خيبتي قليلاً. قادمٌ إليك أنا من سنوات الصقيع والخيبة، من مدن الثلج والوحدة. فلا تتركيني واقفاًً في مهب الجرح. كانت الإشارات المكتوبة بالعربية، وبعض الصور الرسمية، وكل تلك الوجوه المتشابهة السمراء، تؤكد لي أنني أخيراً أقف وجهاً لوجه مع الوطن. وتشعرني بغربة من نوع آخر تنفرد بها المطارات العربية. وحده وجه حسّان ملأني دفئاً مفاجئاً عندما أطلّ، وأذاب جليد اللقاء الأول.. مع ذلك المطار. وعندما احتضنني، وأخذ عني حمولة يدي، وقال بلهجة جزائرية مازحة وهو يحمل عني تلك اللوحة: "واش.. مازلت تنقّل في الطابلوهات..؟" ثم أضاف "آ سيدي.. هذا نهار مبروك من هو اللي قال نشوفك هنا..!". شعرت أن قسنطينة أخذت فجأة ملامحه، وأنها أخيرا جات ترحّب بي. وهل كان حسان غير تلك المدينة نفسها. غير حجارتها.. قرميدها.. وجسورها ومدارسها.. وأزقّتها وذاكرتها؟ هنا ولد، وهنا تربّى ودرس، وهنا أصبح مدرّسا. لم يغادرها إلا نادراً في زيارات قصيرة إلى تونس أو إلى باريس. كان يحضر لزيارتي من سنة إلى أخرى، لكي يطمئنّ عليّ وليشتري بالمناسبة بعض لوازم عائلته التي ما فتئت تكبر وتتضاعف. وكأن حسان قرر أن يتحمل بمفرده مسؤولية عدم اندثار اسم العائلة، بعدما يئس من تزويجي وأدرك بعد محاولات إغراء فاشلة، أنه لن يكون لي بنات و لا بنون.. ما عدا تلك اللوحات التي تنفرد بحمل اسمي. أكتشف اليوم، أن هذا الرجل الفارع القامة، المهذّب المظهر، والذي يتحدث دائماً بحماسة الأساتذة وعنادهم وتكرارهم، وكأنه يواصل حديثه لتلاميذه وليس للآخرين، هو أخي.. لا غير. أكنت أجهل هذا؟ لا! ولكن في هذا اليوم الاستثنائي الألم والخيبة.. والفرحة! أشعر أن قرابته بي تصبح الأرض الصلبة الوحيدة التي يمكن أن أقف عليها وسط زلازلي الداخلية، والصدر الوحيد الذي كنت لولا الكبرياء، بكيت عليه في تلك اللحظة. عشر سنوات.. حدث خلالها في بعض المرّات أن انتظرته أنا في مطار (أورلي الدولي). كانت الأدوار معكوسة. كان هو القادم.. وأنا المنتظر. وكنت أشعر آنذاك أنني أقوم بواجب عائلي لستُ ملزماُ به، ولكن كنت أحرص عليه. فقد كانت تلك إحدى فرصي القليلة لألعب دور "الأخ الكبير" بكل مسؤولياته وواجباته. ذلك الدور الذي لم أوفّق دائماً في أدائه. فقد عشت في الواقع دائماً بعيداً عن حسّان، حسان الذي كنت أدرك جوعه للحنان ويتمه المبكّر.. وتعلقه العاطفي بي. تُراه لهذا أيضاً تزوّج باكرا على عجل، وراح يكثر من الأولاد ليحيط نفسه أخيراً بتلك العائلة التي حرم منها دائماً في طفولته، والتي كنت عاجزاً عن أن أعوضها له بحضوري العابر.. وغيابي المتنقّل من منفى إلى آخر. فلماذا يقلب لقائي بحسان اليوم كل مقاييسي السابقة، ويشعرني برغم فارق العمر، وبرغم أولاده الستة، أنني الأخ الأصغر وأنه في هذه اللحظة يكبرني بسبع سنوات، وربما بأكثر.. ترى لأنه هو الذي يحمل حقيبتي ويمشي أمامي، ويسألني عن تفاصيل سفري.. أم أن هذا المطار الذي يستفزّ رجولتي وكبريائي يجرّدني من وقار عمري. فأترك حسان يتصرف فيه نيابة عني، وكأن تجربته مع هذه المدينة ومعايشته لطباعها المتقلّبة، جعلته اليوم يبدو أكبر.. أم تراها قسنطينة.. تلك الأم المتطرفة العواطف، حباً وكراهية.. حنانا وقسوة، هي التي حوّلتني بوطأة قدم واحدة على ترابها، إلى ذلك الشاب المرتبك الخجول الذي كنته قبل ثلاثين سنة؟ نظرت إليها من زجاج سيارة كانت تنقلني من المطار إلى البيت، وتساءلت: أتراها تعرفني؟ هذه المدينة الوطن، التي تُدخل المخبرين وأصحاب الأكتاف العريضة والأيدي القذرة من أبوابها الشرفيّة.. وتدخلني مع طوابير الغرباء وتجّار الشنطة.. والبؤساء. أتعرفني.. هي التي تتأمل جوازي بإمعان.. وتنسى أن تتأملني؟ سُئلت أعرابية يوماً: "من أحبّ أولادك إليك؟" قالت: "غائبهم حتى يعود.. ومريضهم حتى يشفى.. وصغيرهم حتى يكبر". وكنت أنا غائبها الذي لم يعد.. ومريضها الذي لم يشف وصغيرها الذي لم يكبر.. ولكن قسنطينة لم تكن قد سمعت بقول تلك الأعرابية. فلم أعتب عليها. عتبت على ما قرأت من كتب التراث العربي! لم أنم تلك الليلة.. أكان ذلك العشاء الذي أعدته عتيقة زوجة حسان، وكأنها تعدّ وليمة، والذي استسلمت له بشهية أكاد أقول تاريخية، هو الذي كان سبب قلقي، بعدما تناولت الكثير من أطباقه التي لم أذق معظمها من سنين؟ أم أن السبب هو صدمة لقائي العاطفي الآخر مع ذلك البيت، الذي ولدت فيه وتربّيت، والذي على جدرانه وأدراجه ونوافذه وغرفه وممراته، كثير من ذاكرتي، من أفراح ومآتم وأعياد.. وأيام عادية أخرى، تراكمت ذكراها في أعماقي لتطفو الآن فجأة.. كذكريات فوق العادة تلغي كل شيء عداها؟ ها أنا أسكن ذاكرتي وأنا أسكن هذا البيت، فكيف ينام من يتوسّد ذاكرته؟ مازال طيف الذين غادروه يعبر هذه الغرف أمامي. أكاد أرى ذيل كندورة (أمّا) العنابي يمر هنا، ويروح ويجيء بذلك الحضور السري للأمومة. وصوت أبي يطالب بالماء للوضوء، أو يصيح من أسفل الدرج "الطريق.. الطريق" لينبّه النساء في البيت أنه قادم صحبة رجل غريب، وأن عليهن أن يفسحن الطريق ويذهبن للاختباء في الغرف البعيدة. أكاد أرى خلف الجدران الجديدة البياض آثار المسمار الذي علق عليه أبي يوماً شهادتي الابتدائية منذ أربعين سنة. ثم جوارها بعد سنوات شهادة أخرى.. وبعدها لا شيء.. توقّف اهتمامه بي ليبدأ اهتمامه بأشياء أخرى، ومشاريع أخرى، انتهت بموت (أما) وزواجه الذي كان جاهزاً للاستهلاك، ومعداً في ذهنه منذ مدة. أكاد أرى جثمان (أما) يخرج مرة أخرى من ها الباب الضيق يليه حشد من قراء القرآن.. ونساء يحترفن البكاء في المآتم. أكاد أرى موكباً آخر يعود بعد أسابيع، بعروس صغيرة هذه المرة.. ونساء يحترفن الزغاريد والمواويل. ثم تلك الليلة التي قبّلت فيها حسان وودعته قبل أن ألتحق بالجبهة. لم يسألني ليلتها إلى أين كنت ذاهباً. كان حسان وهو في عامه الخامس عشر، قد سبق عمره بسنوات. كان مثلي جعله اليتم يكبر على عجل.. وعلّمه ذلّه أن يصمت ويحتفظ لنفسه بالأسئلة. سألني: - .. وأنا؟ وأجبته بالذهول نفسه: - مازلت صغيراً يا حسان.. انتظرني.. فقال وكأنه يتقمّص فجأة صوت (أما) وخوفها المرضيّ عليّ: - عندك على روحك.. آ خالد.. وأجهش بالبكاء. ها هو الوطن الذي استبدلته بأمي يوماً. كنت أعتقد أنه وحده قادر على شفائي من عقدة الطفولة، من يتمي ومن ذلّي. اليوم.. بعد كل هذا العمر، بعد أكثر من صدمة وأكثر من جرح، أدري.. أن هناك يُتم الأوطان أيضاً. هنالك مذلّة الأوطان، ظلمها قسوتها، هنالك جبروتها وأنانيتها. هنالك أوطان لا أمومة لها.. أوطان شبيهة بالآباء. *** لم أنم ليلتها حتى ساعة متقدمة من الصباح. كان للقائي الليلي مع تلك المدينة مذاق مسبق لمرارة ما. وما كدت أغفو حتى أيقظني من غفوتي أصغر أولاد حسان، الذي استيقظ باكراً وراح يبكي بكاء رضيع يطالب بحضن أمه، ووجبته الصباحية. حسدت براءته وجرأته الطفولية.. وقدرته على قول ما يريد دون كلام. في ذلك الصباح، وفي أول لقاء لي مع تلك المدينة، فقدت لغتي. شعرت أن قسنطينة هزمتني حتى قبل أن نلتقي، وأنها جاءت بي إلى هنا، لتقنعني بذلك لا غير! ولم أشعر برغبة في مقاومة قدري. لقد هزمت من مرّوا قبلي، وصنعت من جنونهم بها أضرحة للعبرة. وأنا آخر عشاقه المجانين.. أنا ذا العاهة الآخر الذي أحبها، أنا"أحدب نوتردام" الآخر، وأحمق قسنطينة الآخر.. ما الذي أوصلني إلى جنون كهذا؟ ما الذي أوقفني عند أبواب قلبها عمراً؟ وكانت تشبهك.. تحمل اسمين مثلك، وعدة تواريخ للميلاد. خارجة لتوّها من التاريخ، باسمين: واحد للتداول.. وآخر للتذكار. كان اسمها يوماً "سيرتا". قاهرة كانت.. كمدينة أنثى. وكانوا رجالاً.. في غرور العسكر! من هنا مرّ صيفاكس.. ماسّينيسا.. ويوغررطة.. وقبلهم آخرون. تركوا في كهوفها ذاكرتهم. نقشوا حبّهم وخوفهم وآلهتهم. تركوا تماثيلهم وأدواتهم، وصكوكهم النقدية، أقواس نصرهم وجسوراً رومانية.. .. و رحلوا. لم يصمد من الجسور سوى واحد. ولم يبق من أسمائها سوى اسم "قسنطينة" الذي منحه لها من ستة عشرة قرناً "قسطنطن". أحسد ذلك الإمبراطور الروماني المغرور، الذي منح اسمه لمدينة لم تكن حبيبته بالدرجة الأولى.. وإنما اقترن بها لأسباب تاريخية محض. وحدي منحتك اسما لم يكن اسمي. وربما لذلك، يحدث أن أعاكس قانون الحماقات هذا. وأنادي تلك المدينة "سيرتا" لأعيدها إلى شرعيّتها الأولى. تماما.. كما أناديك "حياة". ككلّ الغزاة.. أخطأ قسطنطين. المدن كالنساء.. نحن لا نمتلكها لمجرد أننا منحناها اسمنا. لقد كانت "سيرتا" مدينة نذرت للحب والحروب، تمارس إغراء التاريخ، وتتربّص بكل فاتح سبق أن ابتسمت له يوماً من علوّ صخرتها. كنسائها كانت تغري بالفتوحات الوهمية.. ولكن لم يعتبر من مقابرها أحد! هنا أضرحة الرومان.. والوندال.. والبيزنطيين.. والفاطميين.. والحفصيين.. والعثمانيين.. وواحد وأربعين باياً تناوبوا علها قبل أن تسقط في يد الفرنسيين. هنا وقفت جيوش فرنسا سبع سنوات بأكملها على أبواب قسنطينة. فرنسا التي دخلت الجزائر سنة 1830، لم تفتح هذه المدينة الجالسة على صخرة، إلا سنة 1837، سالكة ممراً جبليا تركت فيه نصف جيشها، وتركت فيه قسنطينة خيرة رجالها. منذ ذلك اليوم، ولد أكثر من جسر حول تلك المدينة، وكثرت الطرقات المؤدية إليها. ولكن، كانت الصخرة دائماً أكبر من الجسور، لأنها تدري أن لا شيء تحت الجسور سوى الهاوية! ها هي مدينة تتربص بكل فاتح.. تلف نفسها بملاءتها السوداء وتخفي سرّها عن كل سائح. تحرسها الوهاد العميقة من كل جانب، تحرسها كهوفها السرية وأكثر من وليّ صالح، تبعثرت أضرحتهم على المنعرجات الخضراء تحت الجسور. هنا القنطرة.. أقرب جسر لبيتي ولذاكرتي. أعبرها تلقائيا وكأنني أرسمها، مشياً على الأقدام، بين الدوار المبهم والتذكار وكأنني أعبر حياتي، أجتاز العمر من طرف إلى آخر. كل شيء كان يبدو مسرعاً على هذا الجسر. السيارات والعابرون وحتى الطيور، وكأن شيئاً ما كان ينتظرهم على الطرف الآخر. ربما كان بعضهم يجهل آنذاك أن الذي يبحث عنه، قد يكون تركه خلفه، وأنه في الحقيقة، لا فرق بين طرفي الجسر. الفرق الوحيد هو ما في فوقه.. وما تحته. تلك الهاوية المخيفة التي يفصلك عنها حاجز حديدي لا أكثر، والتي لا يتوقف أحد لبنظر إليها، ربما لأن الإنسان بطبعه لا يحب أن يتأمل الموت.. كثيرا. وحدي تستوقفني هذه الهاوية الموغلة في العمق. ترى لأنني أتيتها بأفكار مسبقة وذاكرة متوارثة؟ أم سلكت هذا الطريق، لأنفرد بهذه المدينة على جسر؟ *** هنالك حماقات يجب عدم ارتكابها، كأن تأخذ موعداً مع ذاكرتك على جسر. خاصة عندما تتذكر فجأة، تلك القصة التي نسيتها تماماً منذ سنين.. قصة جدك البعيد الذي رمى بنفسه يوماً من جسر ربما كان هذا.. بعدما توعده أحد البايات بالقتل.. عندما جاءه خبر خيانته وتآمره عليه مع بعض وجهاء قسنطينة للإطاحة به. هو الذي كان مبعوثه ورسوله الخاص.. ورجل ثقته. كان جدّي يومها أضعف من أن يقف بمفرده في وجه ذلك الأمر القاطع بالقتل. وكان أيضاً أكبر من أن يُقاد ليقف بين يدي ذلك الباي ذليلاً.. ولذا عندما أرسل الباي من يحضره إليه.. كان جدي جثة في هوة سحيقة كهذه، أسفل وادي الرمال، فقد رفض أن يمنح الباي شرف قتله. سمعت هذه القصة مرة واحدة من فم أبي، يوم سألته عن سر هذا الاسم الذي نحمله. يبدو أنه كان لا يحب رواية هذه الحادثة. فقد كان الانتحار في حدّ ذاته عاراً وكفراً في مجتمع قسنطيني متدين. ولهذا هاجرت عائلتنا بعد ذلك إلى غرب الجزائر مستبدلة باسم نكرة اسمها الأول. ولم تعد إلى قسنطينة إلا بعد جيل وأكثر، باسمٍ لمدينة أخرى. أعيد نظري إلى أسفل. ماذا تراني جئت أبحث هنا، في هذا الجسر المعلّق على ارتفاع مئة وسبعين متراً من جوف الأرض، والذي تعبره أسراب الغربان على عجل؟ تراني أبحث عن بقايا جدّ ما، كان اسمه أحمد.. يقال إنه كان وسيماً وذا مالٍ وعلم كبير، وأنه رمى يوماً كل شيء من هنا.. ليترك حزنه وجرحه إرثاً لتلك العائلة. هذه هي قسنطينة.. مدينة لا يهمها غير نظرة الآخرين لها، تحرص على صيتها خوفاً من القيل والقال الذي تمارسه بتفوق. وتشتري شرفها بالدم تارة.. والبُعد والهجرة تارة أخرى. تراها تغيّرت؟ أذكر أنني سمعت وأنا شاب بعائلة غادرت قسنطينة فجأة إلى مدينة أخرى، بعدما شاع أن إحدى الأغاني التي ما يزال يغنّيها "الفرقاني" اليوم، قد نظمها أحدهم تغزّلاً في إحدى بناتها! ويظل السؤال.. ما الذي جئت أفعل هنا فوق هذا الجسر؟ تراني على موعد مع ذاكرتي، أم فقط مع لوحتي في هذا الصباح؟ ها أنا أقف أمامها اليوم دون فرشاة ولا ألوان، وبلا قلق أو خوف من مربّع القماش الأبيض. أنا لست خالقها في هذه اللحظة. لست رسّامها ولا مبدعها. أنا جزء منها. ويمكنني أن أصبح حتى جزءاً من تفاصيلها وتضاريسها. يمكنني أن أجتاز هذا الحاجز الحديدي الذي يفصلني عنها، وكأنني أجتاز إطار لوحة.. كأنني أخترقها لأسكنها إلى الأبد. أتدحرج نحو هذا الوادي الصخري العميق نقطة بشرية، قطرة للونٍ ما.. على لوحةٍ أبدية، لمنظر أردت أن أرسمه.. فرسمني. أليست هذه أجمل نهاية لرسّام، أن يتوحد مع لوحته في مشهد واحد؟ كنت أدري في تلك اللحظة وأنا أنظر إلى الوهاد العميقة تحتي، إلى تلك الأنفاق الصخرية التي يشطرها نهر الرمال ببطء زبديّ، أن "الهاوية الأنثى" كانت تستدرجني إلى العمق، في موت شبقيّ أخير، ربما كان فرصتي الأخيرة للتوحد الجسديّ مع قسنطينة، ومع ذاكرة جدّ بدأت أشعر بتواطؤ غامض معه. ترى شهوة السقوط والتحطم هي التي أشعرتني عندئذٍ بالدوار، وأنا معلّق على ذلك الجسر وحدي؟ وإذا بي أشعر فجأة بالخجل من هذه المدينة.. وأكاد أعتذر لها. وحدهم الغرباء هنا يشعرون بالدوار. فمتى بالتحديد وضعتني قسنطينة في خانتهم؟ ورغم ذلك أعترف، أنني لم أكن يومها مستعداً للموت. ليس تمسكاً منيّ بالحياة. ولكن لأنني وصلت بذلك الحزن الجارف العميق الذي اجتاحني منذ وطئت هذه المدينة، إلى عاطفة غامضة متطرفة أخرى. لقد وصلت بمرارتي وخيبتي حد الطمأنينة والسعادة المبهمة. فلقد تعلّمت أن أسخر من استفزاز الأشياء لي، وأقابل تلك المواجهة مع الذاكرة بشيء من التهكم المرّ. ألم آت هنا إثر قرارٍ جنوني، ربما بحثاً عن الجنون في مدينة تكاد تحترفه! ولذا بدأت أتلذّذ سراً بهذه اللعبة الموجعة، وأحرص على أن أعيش صدماتي بمازوشيّة متعمّدة. فربما كانت خيبتي اليوم مع هذه المدينة، هي منجم جنوني وعبقريتي القادمة. وبرغم ذلك قررت فجأة أن أهرب من ذلك الجسر الذي كان بداية جنوني يوماً. فجأة تطيّرت منه، أن الذي أولعت به طويلاً وحولته إلى ديكور لحياتي، بعدما أحطت نفسي بأكثر من نسخة منه. أيكون ذلك الإحساس جاءني، وأنا ألمح من حيث كنت تلك السفوح الجبلية التي كانت يوماً مرشوشة بشقائق النعمان.. وأزهار النرجس المنثور بين الممرات الخضراء، والتي كان أهل قسنطينة يأتون إليها كل سنة لاستقبال الربيع.. محمّلين بما أعدّته النساء لتلك المناسبة من "براج" وحلويات وقهوة.. والتي تبدو اليوم حزينة، وكأن أزهارها غادرتها لسبب غامض؟ أم تراه منظر مزار (سيدي محمد الغراب) الذي يعود فجأة إلى الذاكرة. وإذا بي أستعيد ما قرأته عنه مؤخراً في كتاب تاريخي عن قسنطينة. فتعبرني قشعريرة غامضة. ماذا لو لاحقتني دون أن أدري اللعنة التي لاحقت صالح باي أكبر بايات قسنطينة على الإطلاق بسبب هذا الجسر؟ هو الذي كان يريد أن يختم إنجازاته المعمارية الهائلة، وإصلاحاته المختلفة التي وهبها لتلك المدينة، بإصلاح جسر القنطرة، اللسان الترابي الوحيد الذي كان يربط المدينة بالخارج، والجسر الوحيد الذي صمد من بين خمسة جسور رومانية. تقول أسطورة شعبية، إن هذا الجسر كان أحد أسباب هلاك (صالح باي) ونهايته المفجعة.. فقد قتل فوقه (سيدي محمد)، أحد الأولياء الذين كانوا يتمتّعون بشعبية كبيرة. وعندما سقط رأس الرجل الولي على الأرض، تحول جسمه إلى غراب، وطار متوجهاً نحو دار صالح باي الريفية التي كانت على تلك السفوح. ولعنه واعداً إياه بنهاية لا تقل قسوة ولا ظلماً عن نهاية الولي الذي قتله. فما كان من صالح باي إلا أن غادر بيته وأراضيه إلى الأبد، تطيّراً من ذلك الغراب، واكتفى بداره في المدينة. هكذا أطلق الناس على ذلك المكان اسم "سيدي محمد الغراب"، ليبقى بعد قرنين مزار المسلمين واليهود في قسنطينة، يأتونه في نهايات الأسبوع وفي المواسم، لقضاء أسبوع كامل يرتدون خلاله ثياباً وردية، يؤدون بها طقوساً متوارثة جيلاً عن جيل، فيقدّمون له ذبائح الحمام، ويستحمّون في المياه الدافئة لبركته الصخرية حيث كانت تستحمّ السلاحف، ويعيشون على شرب "العروق" لا غير، والاستسلام لنوبات رقص بدائية، في حلقات جماعية يؤدونها في الهواء الطلق.. على وقع بندير "الفقيرات". ولكن قسنطينة، لم تحقد على بايها الذي وهبها الكثير من الوجاهة والرفاهية. سوّت فقط بطيبة أو بجنون.. بين القاتل والقتيل. صنعت من (سيدي محمد الغراب) أشهر مزار وليّ قسنطيني على الإطلاق، في مدينة يحمل كل شارع فيها اسم وليّ. وخلّدت من بين واحد وأربعين باياً حكمها، اسم صالح باي وحده، فكتبت فيه أجمل أشعارها، وغنّت فجيعة موته في أجمل أغنية رثاء. ومازالت تلبس حداده حتى اليوم مع ملاءات نسائها السوداء.. دون أن تدري! هذه هي قسنطينة.. لا فرق بين لعنتها ورحمتها، لا حاجز بين حبّها وكراهيّتها، لا مقاييس معروفة لمنطقها. تمنح الخلود لمن تشاء، وتنزل العقاب بمن تشاء. فمن عساه يحاسبها على جنونها، ومن عساه يحسم موقفه منها، حباً أو كراهية.. إجراماً أو براءةً.. دون أن يعترف أنها تحمل في كل الحالات ضدّها؟ *** في كل يوم كنت أقضيه في تلك المدينة، كنت أتورط أكثر في ذاكرتها، فرحت أبحث في سهراتي مع حسان، وأحاديثنا الجانبية الطويلة، التي تمتد بنا أحياناً حتى ساعة متأخرة من الليل.. عن وصفة أخرى للنسيان. أبحث في ذلك الجو العائلي الذي افتقدته طويلاً عن طمأنينة أخرى خارج فضائها. كان لوجودي في ذلك البيت العائلي الذي أعرفه ويعرفني، تأثير على نفسيّتي في تلك الأيام. وربما كان سندي السريّ الذي لم أتوقّعه. لقد كنت أعود إليه كل ليلة، وكأنني أصعد نحو دهاليز طفولتي البعيدة، لأصبح جنيناً من جديد.. أختبئ في جوف أمٍ وهمية، مازال مكانها هنا فارغاً منذ ثلاثين سنة. يحدث في تلك الليالي أن أذكر زياد، يوم أقام عندي لبضعة أشهر في الجزائر، عندما رفض مستأجره أن يجدّد له عقد إيجار البيت. تعوّدت وقتها أن أترك له سريري، وأنام على فراش آخر وضعته على الأرض في غرفة أخرى. وكان زياد يحتج ويشعر بشيء من الإحراج، معتقداً أنني أفعل ذلك مجاملة له. وكنت أوكّد له كل مرة، أنني اكتشفت بفضله أنني أسعد أكثر بالنوم على الأرض. فقد كان ذلك الفراش الأرضي يذكّرني بطفولتي وبنومي إلى جوار أمي لعدة سنوات، على ذلك المطرح الصوفي الذي ما زلت أذكر لونه الأزرق. بل وتلك الأيام التي كانت تخصّصها (أمّا) كل خريف، لغسل الصوف وتجديد تلك المطارح الصوفية التي كانت الأثاث الأساسي لغرفة نومي. تمنّيت لو طلبت من عتيقة أن تضع لي في المستقبل فراشاً على الأرض، تماماً كما تفعل مع أولادها الذين ينامون في الغرف الأخرى، على فراش أرضي مشترك يوحي بالدفء والرغبة بالانزلاق تحت أغطيته الصوفية الجميلة التي تثير غيرتي وحنيني لزمنٍ لم أعد أدري لبعده، إن كنت عشته حقاً.. أم تخيّلته. ولكن أيعقل أن أطلب هذا الطلب من عتيقة؟ هي التي أعطتني أجمل غرف بيتها، غرفة نومها العصرية المعدّة لاستقبال الضيوف، أكثر منها لقضاء ليالٍ زوجية.. للحب؟ لو فعلت هذا فلربما أحرجتها، ولما وجدت تفسيراً لجنوني هذا. فقد كانت عتيقة تشارك أحياناً في سهرتنا، وتحاول أن تستنجد بي، بصفتي رجلاً متحضّراً قادماً من باريس، لأقنع أخي بالتخلي عن هذا البيت العربي القديم، وهذه الطريقة المتخلّفة في العيش. وتكاد تعتذر لي عن كل الأشياء التي كانت تبدو في نظري جميلة.. ونادرة. ولأنني لم أكن أملك القدرة على إقناعها برأيي، ولا الجرأة على معاكسة رأيها، كنت أكتفي بالاستماع إلى نقاشها مع حسان، ذلك النقاش الذي يكاد يتحول أحياناً إلى شجار قبل أن تنسحب هي إلى النوم، ويعلّق حسان شبه معتذر: "لا يمكن أن تقنع امرأة تشاهد مسلسل (دالاس) على التلفزيون، أن تسكن بيتاً كهذا وتحمد الله.. لا بد أن يوقفوا هذا المسلسل، ماداموا عاجزين عن منح الناس سكناً محترماً.. وحياة أفضل..". كنت أحسد قناعة حسان. وأعجب بفلسفته في الحياة. كان يقول: "لكي تكون سعيداً عليك أن تنظر إلى من تحتك. فإذا كان في يدك قطعة رغيف، ونظرت لمن ليس في يده شيء، ستسعد وتحمد الله. وأما إذا رفعت رأسك كثيراً ونظرت لمن في يدهم قطعة "كعك" فأنت لن تشبع، بل ستموت قهراً فقط.. وتتعس باكتشافك!". وهكذا ففي نظر حسان أن العيش في بيت كهذا برغم كل سلبياته التي تبدو أحياناً مزعجة، بتفاصيلها الصغيرة التي تجاوزها العصر، يظل أفضل مما يعانيه آلاف الناس. بل وعشرات الآلاف الذين لم يجدوا بيتاً واسعاً كهذا يسكنونه بمفردهم مع أولادهم وزوجتهم. بل كثيراً ما يتقاسمون مع أهلهم وأقاربهم، الشقة الضيقة التي تكون بيتاً لعائلتين لعدة سنوات. هكذا كان حسان.. "لقد كانت نظرته إلى الأشياء نظرة عمودية، فقد تعلم كل ما تعلمه في صباه على سبورة بالحائط..". وكان سعيداً بتلك النظرة التي قد تعود أيضاً إلى عقليته كموظف محدود الدخل.. ومحدود الأحلام! فَبِمَ يمكن أن يحلم أستاذ للعربية يقضي يومه في شرح النصوص الأدبية، وسرد سيرة الكتّاب والشعراء القدامى على تلاميذه.. وتصحيح أخطائهم النحوية والإنشائية، ولا يجد متسعاً من الوقت _أو الجرأة_ لشرح ما كان يحدث أمامه، وتصحيح أخطاء أكبر ترتكب على مرأى منه باسم كلمات خرجت فجأة من اللغة، لتدخل قاموس الشعارات والمزايدات؟. كان في أعماق حسان مرارة غامضة تبدو على كل تفاصيل حياته. ولكنه كان يحتفظ بها لنفسه. من الواضح أنه كان متعباً وغارقاً في مشكلات أولاده الستّة وزوجته الشابة التي تحلم بحياة أخرى غير حياة قسنطينة المغلقة. وأما هو فلم يكن يجرؤ على الحلم، أو بالأحرى كان يحلم آنذاك بالعثور على شخص يتوسط له ليحصل على ثلاجة جديدة.. لا غير! عندما عرفت أمنيته البسيطة الصعبة، حزنت وأنا أكتشف أننا لم نكن متخلّفين عن أوربا وفرنسا فقط، كما كنت اعتقد، وإلا لهان الأمر.. وبدا منطقياً. لقد كنا متخلّفين عما كنّا عليه منذ نصف قرن وأكثر. يوم كنّا تحت الاستعمار. يومها كانت أمنياتنا أجمل.. وأحلامنا أكبر. يكفي أن تتأمل وجوه الناس اليوم وأن تسمع أحاديثهم وأن تلقي نظرة على واجهات المكتبات لتفهم ذلك. يومها كنّا وطناً يصدّر الأحلام.. مع كل نشرة أخبار إلى كل شعوب العالم. وكانت هذه المدينة بمفردها تصدّر من الجرائد والمجلات والكتب ما لا تصدّره اليوم المؤسسات الوطنية لا نوعاً.. ولا عداً. يومها كان لنا من المفكرين والعلماء.. والشعراء والظرفاء والكتاب، ما يملأنا زهواً وغروراً بعروبتنا. اليوم.. لم يعد أحد يشتري الجرائد ليحتفظ بها في خزانة، إذ لم يعد في الجرائد ما يستحق الحفظ. ولم يعد أحد يجلس إلى كتاب ليتعلّم منه شيئاً. لقد أصبح البؤس الثقافي ظاهرة جماعية، وعدوى قد تنتقل إليك وأنت تتصفّح كتاباً. " لقد كانت الكتب دائماً على صواب في ذلك العهد، وكان الواحد منّا فصيحاً يتكلم كما تتكلم الكتب..". واليوم أصبحت الكتب تكذب أيضاً.. مثلها مثل الجرائد. ولذا تقلّص صدقنا.. وماتت فصاحتنا، منذ أصبح حديثنا يدور فقط حول المواد الاستهلاكية المفقودة! عندما قلت يومها هذا الكلام لحسان، ظل يتأملني بذهول وكأنه اكتشف شيئاً لم ينتبه له من قبل.. ثم قال بشيء من الحسرة: - صحيح.. لقد خلقوا لنا أهدافاً صغيرة لا علاقة لها بقضايا العصر. وانتصارات فردية وهمية، قد تكون بالنسبة للبعض الحصول على شقة صغيرة بعد سنوات من الانتظار.. أو قد تكون الحصول على ثلاجة، أو التمكن من شراء سيارة.. أو حتى دواليبها فقط! ولا أحد عنده متسع من الوقت والأعصاب ليذهب أكثر من هذا، ويطالب بأكثر من هذا.. نحن متعبون.. أهلكتنا هموم الحياة اليومية المعقّدة التي تحتاج دائماً إلى وساطة لحل تفاصيلها العادية. فكيف تريد أن نفكّر في أشياء أخرى، عن أيّ حياة ثقافية تتحدث؟ نحن همّنا الحياة لا غير.. وما عدا هذا ترف.. لقد تحولنا إلى أمة من النمل، تبحث عن قوتها وجحر تختبئ فيه مع أولادها لا أكثر.. سألته بسذاجة: - وماذا يفعل الناس؟ قال مازحاً: - الناس..؟ لا شيء.. البعض ينتظر.. والبعض يسرق.. والبعض الآخر ينتحر، هذه مدينة تقدم لك الاختيارات الثلاثة بالمبررات نفسها.. والحجة نفسها! يومها خفت على حسان من تلك المدينة.. وانتابتني فجأة قشعريرة مبهمة. سألته دون تفكير.. وكأنني أسأله أي الوصفات الثلاثة أختار: - وهل لك أصدقاء هنا تلتقي بهم.. وتخرج معهم؟ أجابني وكأنه يعجب لسؤالي، أو يسعد لاهتمامي المفاجئ بكل تفاصيل حياته: - لي أصدقاء معظمهم مدرسون معي في الثانوية.. ما عدا هذا ليس لي أحد.. لقد فرغت قسنطينة من أهلها، ورحلت كل العائلات القديمة التي عرفناها. وراح يسرد عليّ أسماء عائلات كبيرة هاجرت أو راحت تستقر في العاصمة أو في الخارج، لتترك تلك المدينة لآخرين.. جاء معظمهم من القرى و المدن الصغيرة المجاورة. قبل أن يضيف تلك الجملة التي لم تستوقفني ساعتها، والتي أخذت بعد ست سنوات كل أبعاد القدر الأحمق، قال: - لقد أصبح سكان هذه المدينة الأصليون، لا يزورونها سوى في الأعراس.. أو في المآتم! وقبل أن أعلّق على كلامه، أضاف وكأنه تذكّر شيئاً: - سأعرفك على ناصر ابن سي الطاهر.. من المؤكد أنه سيأتي بعد غدٍ لحضور زواج أخته. سترى.. لقد أصبح رجلاً بطولك وبضخامتك، وهو يتردد عليّ منذ بضعة أشهر، منذ قرّر أن يستقر في قسنطينة. إنه الوحيد الذي قام بهجرة معاكسة. لقد رفض حتى منحة إلى الخارج.. تصور! لا أحد يصدّق هذا.. عندما سألته لماذا لم يسافر مثل الآخرين ويهرب من هذا البلد، قال لي: "أخاف إن سافرت ألا أعود أبداً.. كل أصحابي الذين سافروا لم يعودوا..". ضحكت وأنا أكتشف هذا التطرف الذي يذكّرني بك، وكأنه سمة عائلية. وشعرت برغبة في إطالة ذلك الحديث الذي كان يؤدي إليك بطريقة.. أو بأخرى.. سألته: - وماذا يفعل الآن؟ - لقد أعطوه بصفته ابن شهيد محلاً تجارياً وشاحنة يعودان عليه بدخل كبير. ولكنه مازال ضائعاً متردداً، يفكر أحياناً في مواصلة دراسته، ثم أحياناً أخرى في التفرّغ للتجارة. والحقيقة أنني عاجز عن نصحه. فمن المؤسف أن ينقطع إنسان عن دراسته العليا، لأنه سيظل يشعر بذلك النقص طوال حياته.. ومن ناحية أخرى، لم تعد تفيد الشهادات اليوم في شيء حسب قوله، وهو يرى شباباً بشهادات عليا عاطلين عن العمل، وآخرين جهلة يتنقّلون في سيارات مرسيدس ويسكنون فيلات فخمة.. ليس هذا زمناً للعلم.. إنه زمن الشّطارة.. فكيف يمكن أن تقنع اليوم صديقك أو حتى تلميذك بالتفاني في المعرفة؟. لقد اختلت المقاييس نهائياً.. قلت لحسان: المهم أن يعرف الإنسان ما هو هدفه الحقيقي في الحياة.. هل المال هو مشكلته الأولى.. أم المعرفة وتوازنه الداخلي؟ ردّ حسان مازحاً: - توازن..؟ عن أي توازن تتحدث.. نحن شعب نصف مختلّ. لا أحد فينا يدري ما يريد بالضبط.. ولا ماذا ينتظر بالتحديد.. إن المشكل الحقيقي هو هذا الجو الذي يعيشه الناس، وهذا الإحباط العام لشعبٍ بأكمله. إنه يفقدك شهية المبادرة والحلم والتخطيط لأي مشروع. فلا المثقفون سعداء.. ولا الجاهلون ولا البسطاء ولا الأغنياء. قل لي يرحم والديك.. ماذا يمكن أن تفعل بعلمك إذا كنت ستنتهي موظفاً يعمل تحت إشراف مدير جاهل، وُجِد في منصبه مصادفة ليس لسعة معرفته، وإنما.. لكثرة معارفه وعرض أكتافه.! وماذا يمكن أن تفعل بأموالك في قسنطينة مثلاً.. سوى أن تدفعها عمولة لتحصل على شقة غير صالحة للسكن في معظم الأحيان.. أو تقيم عرساً بها يغنّي فيه "الفرقاني"؟ أما إذا كان كل ما تملكه لا يتجاوز العشرين ألف دينار.. فيبقى أمامك أن تدفعها "شراب قهوة" لمسؤول محليّ يختبئ خلف أيّ موظّف آخر، ليبيع جوازات سفر إلى الحجّ. وهكذا يمكنك أن تؤدي فريضتك وتحجز لك غرفة صغيرة في الآخرة.. بعدما ضاقت بك الدنيا! صحت عجباً: - واش.. أحقاً تقول.. هل يبيعون جوازات سفر إلى الحج بمليونين!؟ - طبعاً.. لأن الحكومة حددت عدد الحجاج كل عام بسبب تكاليفهم الباهظة بالعملة الصعبة، بعدما اكتشفت أن معظمهم يسافر عدة مرات لأسباب لا علاقة لها بالحج، وإنما لأغراض تجارية محض. وإلا كيف تفسر أن يكون بعضهم قد حج ست مرات أو سبعاً دون أن يكون ذلك واضحاً على سلوكه وأخلاقه؟ أنا أعرف حاجاً "سوكارجي" لا تفارق الخمرة بيته، وأعرف آخر متفرغاً للترافيك و"البزنيس".. وتغيير العملة الصعبة في الأسواق السوداء.. هؤلاء مازالوا يسافرون كل عام للحج. يمكنهم أن يحصلوا على عشرين ألف دينار بسهولة. وأما أنا فمن أين لي هذا المبلغ لأقوم بتأدية فريضتي، ودخلي لا يتجاوز الأربعة آلاف دينار في الشهر؟ قلت له وأنا أنتقل من دهشة إلى أخرى: - علاش.. هل تنوي الحج؟ - طبعاً.. ولم لا.. ألست مسلماً؟ لقد عدت إلى الصلاة منذ سنتين ولولا إيماني لأصبحت مجنوناً. كيف يمكن أن تصمد أمام كل هذا المنكر وهذا الظلم دون إيمان؟ وحدها التقوى تعطيك القدرة على الصمود.. انظر حولك: لقد توصّل جميع الناس إلى هذه النتيجة وربما الشباب أكثر من غيرهم لأنهم الضحية الأولى في هذا الوطن.. وحتى ناصر نفسه أصبح يصلّي منذ عاد إلى قسنطينة، ربما لهذا السبب وربما لأن الدين كالكفر.. عدوى أيضاً! والله يا خالد.. لو رأيتهم يوم الجمعة يتجهون إلى المساجد بالآلاف حتى تضيق بهم جدرانها.. وتفيض بهم الشوارع.. لوقفت معهم تصلي دون أن تتساءل لماذا! لم أجد شيئا أعلّق به على كلام حسان في تلك السهرة العجيبة، التي طالت بنا حتى الثانية صباحاً. فقد كان حسان سعيداً بوجودي، وسعيداً ببدء العطلة الصيفية التي تسمح له بالسهر والتحدث إليّ طويلاً بعد كل هذه السنوات التي باعدتنا. فتركته يتحدث.. ويعري أمامي هذا الوطن الذي كنت كسوته حنيناً وعشقاً وجنوناً. أكان يخاف عليّ من خيبتي،ويخشى أن يفقد فرحة عودتي إليه وإلى هذا الوطن مرة أخرى، عندما كان يتوقف أحياناً عن الحديث لينتقل بي إلى موضوع آخر؟ كأن يستدرجني مثلاً بطريقة غير مباشرة إلى الدين وإلى التقوى والإيمان. ويغريني بالتوبة، وكأن وجودي في فرنسا بحد ذاته قد أصبح ذنبا وكفراً. أهذا هو حسان؟. لم أمنع نفسي ساعتها من الابتسام وأنا أتذكر أنني أحضرت له معي زجاجتيْ ويسكي كالعادة.. تساءلت ليلتها وأنا في فراشي عن ذنوبي. حاولت أن ألخصها، أن أحصرها.. فلم أجدها أكبر من ذنوب غيري، بل وربما وجدتها أقل بدرجات.. لم أكن مجرماً.. ولا مقامراً.. ولا كافرا.. ولا كاذباً.. ولا سكّيراً.. ولا خائناً.. لم تكن لي زوجة ولا سرير شرعي استبدلت به آخر. خمسون سنة من الوحدة. نصفها تماماً ما يمكن أن أسمّيه "السنوات المعطوبة" تلك التي قضيتها بذراعٍ واحدة، مشوّه الجسد والأحلام. كم أحببت من النساء؟. لم أعد أذكر. منذ حبّي الأول لتلك الجارة اليهودية التي أغريتها. إلى تلك الممرضة التونسية التي أغرتني. إلى نساء أخريات.. لم أعد أذكر أسماءهن ولا ملامحهن، تناوبن على سريري لأسباب جسدية محض، وذهبن محملات بي لأبقى فارغاًً منهن.. وجئتِ أنتِ.. أكبر ذنوبي على الإطلاق كنت أنتِ. المرأة الوحيدة التي لم أمتلكها، والذنب الوحيد الذي لم أقترفه حقاً. لقد كانت ذنوبي معك، هي ما يمكن أن أسميه "ذنوب اليد اليمنى".. اليد الوحيدة التي رسمتك بها.. واستحضرتك بها.. واغتصبتك بها.. وهما! فهل سيعاقبني الله على ذنوب يدٍ لم يترك لي سواها!؟ لا أذكر من قال: "ليس الفضيلة تجنّب الرذيلة، الفضيلة في ألا تشتهيها! وأعتقد أنني بهذا المفهوم فقط.. لم أكن رجلاً فاضلاً. فقد كان لا بد ألا أشتهيك أنتِ.. وألا أبدأ رذيلتي معك. كان لحبك طعم المحرمات والمقدسات التي يجب تجنّبها، والتي كنت أنزلق نحوها دون تفكير. لقد كان الأمر المدهش حقاً في قصتي معك، أن تكون المبررات التي جعلتني أحبك، هي التي كان يجب أن تجعلني أعدل عن حبك. ولهذا ربما كنت أحبك وأعدل عن حبك.. أكثر من مرة في اليوم. وبالتطرف نفسه كل مرة. وأنا لا أفعل شيئاً في النهاية هنا، سوى البحث عن حدٍ لهذا المدّ والجزر العاطفي الذي أعيشه معك كل لحظة. كنت أدري أن العاشق مثل المدمن، لا يمكن أن يقرر بمفرده الشفاء من دائه، وأنه مثله يشعر أنه ينزل تدريجياً كل يوم أكثر نحو الهاوية. ولكنه لا يمكن أن يقف على رجليه ويهرب، مادام لم يصل إلى أبعد نقطة في الجحيم، ويلامس بنفسه قعر الخيبة والمرارة القصوى. وكنت سعيداً في تلك الليلة.. تلك السعادة الغامضة المرة، لأنني كنت أدري أن كل شي سوف يحسم في اليومين القادمين، وأنني بطريقة أو بأخرى سأنتهي منك. كانت زوجة حسان في تلك السهرة منهمكة في إعداد نفسها للحدث الهام، ولمرافقة الموكب النسائي في الغد إلى الحمام، ثم إلى ليلة الحنة. وكانت كثيرة الحركة ومشغولة عنا وعن أولادها بهمومها النسائية، وبما ستأخذه في حقيبتها من ثياب للحمام، حيث ستستعرض النساء مثل العادة كل شيء حتى ثيابهن الداخلية.. ليتظاهرن بغناهنّ الكاذب في معظم الأحيان.. أو ليقنعن أنفسهن فقط، أنهن مازلن برغم كل شيء قادرات على إغراء رجل، تماماً مثل تلك العروس التي يرافقنها.. والتي يتأمّلنها بحسد سريّ. فليكن.. غداً تبدأ طقوس أفراحك.. وينتهي ذلك الزمن الذي سرقناه من الزمن. أجمل الأحلام إذن سيدتي في انتظار غدك. ولتصبح على خير.. أيها الحزن! *** يوقظني الحب المضاد في هذا الصباح الصيفي.. ويرمي بي في الشوارع. قررت حال استيقاظي أن أهرب من البيت، ومن حديث عتيقة الذي لا ينقطع عن مراسيم الحفل، وعن أسماء الشخصيات والعائلات الكبيرة التي جاءت خصيصاً لتحضر ذلك الحدث الذي لم تشهد قسنطينة مثله منذ سنوات. ولكنها لحقت بي حتى الباب لتواصل حديثها: - على بالك.. يقال إنهم حضروا كل شيء من فرنسا.. منذ شهر والطائرة تنقل لوازم العرس.. لو رأيت جهاز العروس وما لبسته البارحة.. يا حسرة.. قال لك "واحد عايش في الدنيا.. وواحد يوانس فيه..!" أجبتها وأنا أغلق خلفي الباب، وكأنني أغلق بعنف أبواب قلبي: - ما عليهش.. البلد لهم والطائرات أيضاً. ويمكنهم أن يجلبوا إليه كما أخذوا منه ما شاؤوا! أين أهرب؟ ها أنا أوصدت الباب خلفي، وإذا لا شي أمامي.. سواي. رميت بخطاي دون تفكير وسط أفواج المارة الذين يجوبون الشوارع هكذا كل يوم دون جهة محددة. هنا.. أنت تملك الخيار بين أن تمشي، أو تتكئ على جدار، أو تجلس في مقهى لتتأمل الذين يمشون أو يتكئون أمامك.. على حائط الرصيف المقابل.. رحت أمشي.. شعرت في لحظة ما، أننا نطوف جميعاً حول هذه المدينة الصخرة، دون أن ندري تماماً.. ماذا يجب أن نفعل بغضبنا، ماذا يجب أن نفعل ببؤسنا.. وعلى من نرمي هذا الحصى الذي امتلأت به جيوبنا الفارغة. من الأوْلى بالرّجم في هذا الوطن؟ من؟ ذلك الجالس فوق الجميع.. أم أولئك الجالسون فوقنا؟ حضرني لحظتها عنوان رواية لمالك حداد.. "الأصفار تدور حول نفسها". تمنيت لو أنني قرأتها، عساني أجد تفسيراً لكل هذه الدوائر التي تحولنا إليها. ثم قادتني أفكاري إلى مشهد شاهدته يوماً في تونس لجمل مغمض العينين، يدور دون توقف في ساحة (سيدي بوسعيد)، ليستخرج الماء من بئر أمام متعة السواح ودهشتهم. استوقفني يومها عيناه اللتان وضعوا عليهما غمامة ليتوهم أنه يمشي إلى الأمام دائماً، ويموت دون أن يكتشف أنه كان يدور في حلقة مفرغة.. وأنه قضى عمره دائراً حول نفسه! ترانا أصبحنا ذلك الجمل الذي لا يكاد ينتهي من دورة حتى يبدأ أخرى تدور به بطريقة أو بأخرى حول همومه الصغيرة اليومية؟ تُرى هذه الجرائد التي تحمل لنا أكياساً من الوعود بغدٍ أفضل، ليست سوى رباط عينين، يخفي عنا صدمة الواقع وفجيعة الفقر والبؤس الحتمي الذي أصبح لأول مرة يتربص بنصف هذا الشعب؟ وأنا.. تراني لم أعد أعرف المشي إلى الأمام في خط مستقيم لا يعود بي تلقائياً إلى الوراء.. إلى هذا الوطن الذاكرة؟ وهذا الوطن.. من أين له هذه القدرة الخارقة على لَيّ المستقيمات، وتحويلها إلى دائرة.. وأصفار! ها هي الذاكرة سياج دائري يحيط بي من كل جانب. تطوّقني أول ما أضع قدمي خارج البيت. وفي كل اتجاه أسلكه تمشي إلى جواري الذكريات البعيدة.. فأمشي نحو الماضي مغمض العينين.. أبحث عن المقاهي القديمة تلك التي كان لكل عالم أو وجيه مجلسه الخاص فيها، حيث كانت تعد القهوة على الوجاق الحجري وتقدم بالجزوة.. ويخجل نادل أن يلاحقك بطلباته. كان يكفيه شرف وجودك عنده. في ذلك الزمن كان لابن باديس المقهى الذي كان يتوقف عنده، وهو في طريقه إلى المدرسة. كان اسمه (مقهى بن بامينة). وكان هنالك (مقهى بو عرعور) حيث كان مجلس بلعطّار وباشتارزي وحيث كنت ألمح أبي أحياناً وأنا أمر بهذا الطريق. أين ذلك المقهى لأحتسي فيه هذا الصباح فنجان قهوة نخب ذكراه؟ كيف أعثر على مقهى لم يكن كبيراً سوى بأسماء رواده؟ كيف أجده.. في هذا الزمن الذي كبرت فيه المقاهي وكثرت، لتسع بؤس المدينة. وإذا بها متشابهة وحزينة كوجوه الناس؟ لم يعد يميزها شيء. حتى تلك الهيبة التي كانت سمة أهل قسنطينة، وذلك الشاش والبرنس المتألق بياضاً، أصبح نادراًً وباهتاً اليوم. ربما كان أول ما لفت نظري ذلك الصباح، ذلك الزيّ الموحّد لتلك المدينة التي تستيقظ كما تنام بحزن غامض. ذلك اللون القاتم المتدرج والمشترك بين الجنسين. النساء ملفوفات بملاءاتهن السوداء التي لا يبدو منها شيء سوى عيونهن. والرجال في بدلاتهم الرمادية أو البنية التي لا تختلف عن لون بشرتهم.. ولا لون شعرهم. والتي يبدون وكأنهم اشتروها جميعاً عند خياط واحد. وقلما كان يبدو من بين الحشود نقطة ضوء، أو لون زاهٍ لفستانٍ أو لبدلةٍ صيفية. تراني كنت أنظر ذلك الصباح إلى تلك المدينة، بعيون رسام لا تلفت نظره سوى الألوان، ويكاد لا يرى سواها في كل شيء. أم تراني كنت أراها فقط بعيون الماضي وخيبة الحاضر؟ رميت بنفسي وسط أمواج الرجال الضائعين مثلي في تلك المدينة. شعرت لأول مرة أنني بدأت أشبههم. مثلهم أملك وقتاً ورجولة لا أدري ماذا أفعل بها. فلا أملك إلا أن أمشي ساعات في الشوارع كما يمشون.. محملاً ببؤسي الحضاري.. وبؤسي الجنسي الآخر. ها نحن نتشابه فجأة في كل شيء. في لون شعرنا ولون بدلتنا وجرّ أحذيتنا وخطانا الضائعة على الأرصفة. نتشابه في كل شيء، وأنفرد وحدي بك. ولكن هل يغير ذلك شيئاً؟ حبك الذي استدرجني حتى هذه المدينة، أعادني إلى تخلّفي دون علمي. رمى بي وسط هذه الجموع الرجالية، التي تسير ببطء تحت الشمس الصيفية، دون وجهة محددة، ودون أن تدري ماذا تفعل بتلك الأشعة التي تختزنها الأجساد المحمومة في النهار، وتنفقها الأيدي البائسة سرّاً في الليل.. في الملذات الفردية. تتوقف فجأة خطواتي أمام جدران بيت لا يشبه بيوتاً أخرى. هنا كانت أكبر "دار مغلقة" يرتادها الرجال. وكان لها ثلاثة أبواب تؤدي إلى شوارع وأسواق مختلفة. لقد كانت في الواقع داراً مغلقة مشرعة، مدروسة ليتسلل إليها الرجال من أية جهة، ويخرجوا منها من أية جهة أخرى. كان الرجال يؤمونها من كل صوب، هرباً من المدن والقرى المجاورة، التي لا ملّذات فيها ولا نساء. وكانت النساء الجميلات والبائسات، يأتين أيضاً من كل المدن المجاورة ليختفين خلف هذه الجدران المصفرة، التي لا يخرجن منها إلا عجائز لينفقن ثروتهن في الصدقات والحسنات، وتطهير الأيتام في موسم توبتهن الأخيرة. هنا أنفق أبي ثروته ورجولته..! أحاول ألا أتوقف عند ذلك البيت الاستثنائي، الذي كان لعدة سنوات سبب حزن أمي السري، وربما موتها قهراً. وكان لعدة سنوات أيضاً سرّ نشوتي السرية، وأحلامي المكبوتة أيام صباي، يوم كنت أحلم به ولا أجرؤ على دخوله، ربما خوفاً من أن ألتقي بأبي هناك، وربما أيضاً لأنني كنت مكتفياً بمغامراتي العابرة المسروقة فوق السطح تارة، أو في غرف المؤونة التي قلما يفتحها أحد.. اليوم لم يعد أبي هناك ليمنعني احتمال وجوده في هذا "البيت" من الدخول. لقد رحل بعدما ترك تاريخه بامتياز خلف هذه الجدران، تماماً كما يفعل أيّ فلسطيني ثري ومحترم على أيامه. ألم تكن جدتي تقول وقتها لتعلم أمي الصبر، وتعودها على تقبّل تلك الخيانة بفخر: "إن ما يفعله الرجال.. طرّز على أكتافهم!". وكان أبي يطرّز مغامراته جرحاً ووشماً على جسد (أمّا) دون أن يدري. ماذا أصبح هذا "البيت" لست أدري.. يُقال إنهم أغلقوه وربما ظل له باب واحد فقط.. بعدما أغلقت أبوابه الأخرى، في إطار سياسة تقليص الملذات في هذه المدينة، أو احتراماً لعشرات المساجد التي نبتت على صدر هذه الصخرة، والتي يرتفع صوتها مجتمعة مرات في اليوم، ليذكّر الناس بمزايا الإيمان والتوبة.. وكنت في تلك اللحظة، كمعظم رجال هذه المدينة، أقف في الحد الفاصل بين شهوة الجسد وعفة الروح. يتجاذبني إلى أسفل النداء السري لتلك الغرف المظلمة الشبقية.. حيث تحلو الخطايا.. ويسمو بي إلى أعلى ذلك النداء الآخر، لتلك المآذن التي افتقدت طويلاً تكبيرها، ورهبة آذانها الذي كان يدعو إلى الصلاة، فيخترق بقوته دهاليز نفسي، ويهزني لأول مرة منذ سنوات. لقد أصبحت في بضعة أيام رجلاً مزدوجاً كهذه المدينة، وبدأت أعي أن ليس في هذا العالم المسكون بالأضداد من مدن بريئة. ومدن فاجرة. هنالك مدن منافقة.. وأخرى أقل نفاقاً فقط.. وليس هناك من مدن بوجه واحد.. وحرفة واحدة. وقسنطينة أكثر المدن وجوهاً.. وتناقضاً. ها هي مدينة تستدرجك إلى الخطيئة. ثم تردعك بالقوة نفسها التي تستدرجك بها. كل شيء هنا دعوة مكشوفة للجنس.. شيء ما في هذه المدينة يغري بالحب المسروق: قيلولاتها التي لا تنتهي.. صباحاتها الدافئة الكسلى.. وليليها الموحش المفاجئ. طرقاتها المعلّقة بين الصخور.. أنفاقها السرية الموبوءة الرطوبة.. منظر جبل الوحش وما حوله من ممرات متشعّبة.. غابات الغار والبلّوط.. وكل تلك المغارات والأنفاق المختبئة. ولكن.. عليك أن تكتفي بالتفرج على عادات النفاق المتوارثة هنا من أجيال، وتتحاشى النظر إلى هذه المدينة في عينيها حتى لا تربكها.. وترتبك! فالجميع هنا يعرفون أن خلف شوارعها الواسعة تختبئ الأزقّة الضيقة الملتوية، وقصص الحب غير الشرعية، واللذة التي تسرق على عجل خلف باب.. وتحت ملاءتها السوداء الوقور، تنام الرغبة المكبوتة من قرون. الرغبة التي تعطي نساءها تلك المشية القسنطينية المنفردة، وتمنح عيونهن تحت (العجار)، ذلك البريق النادر. تعوّدت النساء هنا منذ قرون، على حمل رغبتهنّ كقنبلة موقوتة، مدفونة في اللاوعي. لا تنطلق من كبتها إلا في الأعراس، عندما تستسلم النساء لوقع البندير، فيبدأن الرقص وكأنهن يستسلمن للحب، بخجل ودلال في البداية. يحركن المحارم يمنة ويسرة على وقع "الزندالي".. فتستيقظ أنوثتهن المخنوقة تحت ثقل ثيابهن وصيغتهن. يصبحن أجمل في إغرائهن المتوارث. تهتز الصدور وتتمايل الأرداف، ويدفأ فجأة الجسد الفارغ من الحب. تشبّ فيه فجأة الحمى التي لم يطفئها رجل. ويتواطأ البندير الذي تسخنه النساء مسبقاً مع الجسد المحموم، فتزيد الضربات فجأة قوة وسرعة. وتنفك ضفائر النساء، وتتطاير خصلات شعرهن، وينطلقن في حلبات الرقص كمخلوقات بدائية تتلوى وجعاً ولذة في حفلة جذب وتهويل، يفقدن خلالها كل علاقة بما حولهن، وكأنهن خرجن فجأة من أجسادهن، من ذاكرتهن وأعمارهن، ولم يعد يمكن أحدا أن يعيدهن إلى هدوئهن السابق. وكما في طقوس اللذة.. وطقوس العذاب، يدري الجميع أنه لا يجب وقف ضربات البندير، ولا قطع وقعها المتزايد، قبل أن تصل النساء إلى ذروة لا شعورهن ولذتهن، ويقعن على الأرض مغمى عليهن، تمسكهن نساء من خصورهن، وترشهن أخريات بالريحة والعطر الجاهز لهذه المناسبات.. حتى يعدن تدريجياً إلى وعيهن. هكذا تمارس النساء الحب.. وَهْماً في قسنطينة! قسنطينة التي أغرتني.. بليلة حب وهمية، وقبلت صفقتها السرية، مقابل شيء من النسيان. فأين النسيان قسنطينة.. وفي كل منعطف يتربص بي جرح؟ هل الحنين وعكة صحية؟ مريض أنا بك قسنطينة. كان موعدنا وصفة جرّبتها للشفاء، فقتلتني الوصفة. تراني تجاوزت معك جرعة الشوق المسموح بها في هذه الحالات؟ لم أشتركِ في صيدلية جاهزة في طريق، لأرفع دعوى على بائع الأقدار الذي وضعك في طريقي. لقد صنعتك أنا بنفسي، وقست كل تفاصيلك على مقاييسي.. أنت مزيج من تناقضي، من اتّزاني وجنوني، من عبادتي وكفري.. أنت طهارتي وخطيئتي. وكل عقد عمري. الفرق بينك وبين مدينة أخرى.. لا شيء. لعلك كنت فقط المدينة التي قتلتني أكثر من مرة لسبب مناقض للأول.. كل مرة. فأين الحد الفاصل بين جرعة الشفاء وجرعة الموت هذه المرة؟ وفي مواسم الخيبة، تصبح الذاكرة مشروباً مراً يُبتلع دفعة واحدة، بعدما كان حلماً مشتركاً يُحتسى على مهل؟ هنا تبدأ الذاكرة المشتركة، وشوارع يسكنها التاريخ وينفرد بها. بعضها مشيتها مع سي الطاهر وأخرى مع آخرين. هنا شارع يحمل اسمه.. وشوارع تذكر عبوره. وها أنذا أتوحد بخطاه وأواصل طريقاً لم نكمله معاً. تمشي العروبة معي من حيّ إلى آخر. ويملؤني فجأة شعور غامض بالغرور. لا يمكن أن تنتمي لهذه المدينة، دون أن تحمل عروبتها. العروبة هنا.. زهو ووجاهة وقرون من التحدّي والعنفوان. مازالت لحية (ابن باديس) وكلمته تحكم هذه المدينة حتى بعد موته. مازال يتأملنا في صورته الشهيرة تلك. ملتحياً وقاره، متّكئاً على يده، يفكر في ما أُلنا إليه بعده. ومازالت صرخته التاريخية تلك بعد نصف قرن. النشيد غير الرسمي الوحيد.. الذي نحفظه جميعاً. شعب الجزائر مسلم *** وإلى العروبة ينتسبْ من قال حاد عن أصله *** أو قال مات فقد كذبْ أو رام إدماجاً له *** رام المحال من الطلبْ صدقت نبوءتك لنا يا ابن باديس.. لم نمت. فقط ماتت شهيّتنا للحياة. فماذا نفعل أيها العالم الفاضل؟ لا أحد توقّع لنا الموت يأساً. كيف يموت شعب يتضاعف كل عام؟ يا نشء أنت رجاؤنا *** وبك الصباح قد اقتربْ ذلك النشء الذي تغنيت به.. لم يعد يترقب الصباح، مذ حجز الجالسون فوقنا.. الشمس أيضاً. إنه يترقب البواخر والطائرات.. ولا يفكر سوى بالهرب. أمام كل القنصليات الأجنبية تقف طوابير موتانا، تطالب بتأشيرة حياة خارج الوطن. دار التاريخ وانقلبت الأدوار. أصبحت فرنسا هي التي ترفضنا، وأصبح الحصول على "فيزا" إليها ولو لأيام.. هو "المحال من الطلب"! لم نمت ظلماً.. متنا قهراً. فوحدها الإهانات تقتل الشعوب. في زمن ما كنا نردد هذا النشيد في سجن قسنطينة. كان يكفي أن ينطلق من زنزانة واحدة، لتردده زنزانات أخرى، لم يكن مساجينها سياسيين. كان لكلماته قدرة خارقة على توحيدنا. اكتشفنا مصادفة هناك صوتنا الواحد. كنا شعباً واحداً ترتعد الجدران لصوته. قبل أن ترتعد أجسادنا تحت التعذيب. هل بحّ صوتنا اليوم.. أم أصبح هناك صوت يعلو على الجميع. مذ أصبح هذا الوطن لبعضنا فقط؟ *** ولدت كل هذه الأفكار في ذهني وأنا أعبر ذلك الشارع، وألتقي بعد 37 سنة مع جدران سجن كنت يوماً أراها من الداخل. ولكن هل يصبح السجن شيئاً آخر لمجرد أننا ننظر إليه من الخارج، وهل يمكن للعين أن تلغي الذاكرة اليوم، وهل يمكن لذاكرة أن تلغي أخرى؟ كان سجن "الكديا" جزءاً من ذاكرتي الأولى التي لن تمحوها الأيام. وها هي الذاكرة تتوقف أمامه وترغم قدميّ على الوقوف، فأدخله من جديد كما دخلته ذات يوم من سنة 1945 مع خمسين ألف سجين ألقيّ عليهم القبض بعد مظاهرات 8 ماي الحزينة الذكر. وكنت أكثر حظاً، قياساً إلى الذين لم يدخلوه يومها. خمسة وأربعون ألف شهيد سقطوا في مظاهرة هزّت الشرق الجزائري كله بين قسنطينة وسطيف وقالمة وخرّاطة. وكانوا أول دفعة رسمية لشهداء الجزائر. جاء استشهادهم سابقاً لحرب التحرير بسنوات. هل أنساهم؟ أأنسى أولئك الذين دخلوه ولم يخرجوا منه، وظلّت جثثهم في غرف التعذيب؟ وأولئك الذين ماتوا بأكثر من طريقة للموت، رفاقنا الذين اختاروا موتهم وحدهم؟ هنالك إسماعيل شعلال. كان مجرد عامل في البناء. وكانت له مهمة حفظ وثائق "حزب الشعب" وأرشيفه السري. وكان أول من تلقّى زيارة الاستخبارات العامة الذين دقّوا باب غرفته الصغيرة الشاهقة صارخين "البوليس..افتح". وبدل أن يفتح إسماعيل شعلال الباب.. فتح نافذته الوحيدة. ورمى بنفسه على وادي الرمال، ليموت هو وسرّه في وديان قسنطينة العميقة. أيمكن اليوم، وحتى بعد نصف قرن، أن أذكر إسماعيل دون دموع، هو الذي مات حتى لا يبوح بأسمائنا تحت التعذيب؟ وهنالك صوت (عبد الكريم بن وطاف) الذي كانت صرخات تعذيبه تصل حتى زنزانتنا، خنجراً يخترق جسدنا أيضاً ويبعث فيه الشحنات الكهربائية نفسها. وصوته يشتم بالفرنسية معذّبيه ويصفهم بالكلاب والنازيّيين والقتلة.. فيأتي متقطّعاً بين صرخة وأخرى. "criminels.. assassins.. salauds.. nazis" فيرد عليه صوتنا بالأناشيد الحماسية والهتاف. ويصمت صوت بن وطاف. وهنالك (بلال حسين) أقرب صديق إلى سي الطاهر، أحد رجال التاريخ المجهولين، وأحد ضحاياه. كان بلال نجّاراً. لم يكن رجل علم ولكن على يده تعلّم جيل بأكمل الوطنية. فقد كان محلّه القائم تحت جسر (سيجي راشد) مقرّ الاجتماعات السرية. أذكر أنه كان يستوقفني وأنا أمرّ بمحلّه متجهاً إلى ثانوية قسنطينة، فيعرض عليّ قراءة جريدة "الأمة" أو منشوراً سرياً. وكان خلال سنتين يهيؤني سياسياً للانخراط في "حزب الشعب". ويضعني أمام أكثر من امتحان ميداني، كان لا بد لكل عضو أن يمر به قبل أن يؤدي قسم الانخراط في الحزب. ويبدأ نشاطه في إحدى الخلايا التي كان يحددها بلال. في ذلك المحل الذي لا أثر له اليوم، كان يلتقي القادة السياسيون. ويعطي (مصالح الحاج) تعليماته الأخيرة. وفيه نوقشت الشعارات التي رفعها المتظاهرون، وكُتبت ليلاً على اللافتات لتكون مفاجأة فرنسا. وعندما انطلقت تلك المظاهرة من فوق جسر (سيدي راشد) كما خطط لها بلال لأسباب تكتيكية، يسهل معها تجمع المتظاهرين ثم تبعثرهم من كل الطرقات المؤدية للجسر. أدهشت القوات الفرنسية بدقتها ونظامها غير المتوقع. وكان بلال أول من أُلقي القبض عليه يومها.. ومن عذّب للعبرة. ولم يمت بلال حسين كغيره. قضى سنتين في السجن والتعذيب. ترك فيهما جلده على آلات التعذيب. أذكر أنه ظلّ لعدة أيام عاري الصدر، عاجزاً حتى أن يضع قميصاً على جلده، حتى لا يلتصق بجراحه المفتوحة، بعدما رفض طبيب المستشفى تحمل مسؤولية علاجه. ثم خرج محكوماً عليه بالنفي والرقابة المشددة. وعاش بلال حسين مناضلاً في المعارك المجهولة، ملاحقاً مطارداً حتى الاستقلال. ولم يمت إلا مؤخراً في عامه الواحد والثمانين في 27 ماي 1988، في الشهر نفسه الذي مات فيه لأول مرة. مات بائساً، وأعمى، ومحروماً من المال والبنين. اعترف قبل موته ببضعة أشهر لصديقه الوحيد، أنهم عندما عذّبوه تعمدوا تشويه رجولته، وقضوا عليها إلى الأبد. وأنه في الواقع مات منذ أربعين سنة.. يوم وفاته، جاء حفنة من أنصاف المسؤولين لمرافقته إلى مثواه الأخير. أولئك الذين لم يسألوه يوماً بماذا كان يعيش، ولا لماذا لا أهل له. مشوا خلفه خطوات.. ثم عادوا إلى سياراتهم الرسمية، دون أدنى شعور بالذنب. لم يكن أحد يعرف سره الذي احتفظ به أربعين سنة كاملة، بحياء رجل من جيله ومن طينته. فهل كان يستحق ذلك السر، كل ذلك الكتمان؟ كان بلال حسين آخر الرجال في زمن الخصيان.. وكان المبصر في زمن عميت فيه البصائر.. فهل أنسى بلال حسين؟ *** ها هوذا سجن (الكديا).. أتأمله كما نتأمل جدران سجن أول، دخلناه كما ندخل حلماً مزعجاً لم نكن مهيأين له. مرت سنوات كثيرة، قبل أن أدخل سجناًً آخر، كان جلادوه هذه المرة جزائريين لا غير. ولم يكن له من عنوان معروف، ليعرف طيف (أمّا) طريقه إليّ فيأتيني كما كانت تأتي لزيارتي هنا في الماضي، باكية متضرّعة لكل حارس.. ها هوذا سجن (الكديا).. كم من قصص مؤلمة، وأخرى مدهشة عرفها هذا السجن، الذي تناوب عليه أكثر من ثائر، لأكثر من ثورة. سنة 1955.. أي عشر سنوات بالضبط بعد أحداث 8 ماي 1945. عاد هذا السجن للصدارة، بدفعة جديدة لسجناء استثنائيين كانت فرنسا تعدّ لهم عقاباً استثنائياً. في الزنزانة رقم 8.. المعدة لانتظار الموت. كان ثلاثون من قادة الثورة ورجالها الأوائل، ينتظرون موثقين، تنفيذ الحكم بالإعدام عليهم، بينهم مصطفى بن بولعيد والطاهر الزبيري ومحمد لايفا وإبراهيم الطيب رفيق ديدوش مراد وباجي مختار وآخرون. كان كل شيء معداً للموت يومها، حتى أن حلاق مساجين الحق العام، أخبر الشهيد القائد مصطفى بولعيد في الصباح، أنهم غسلوا المقصلة بالأمس، وأنه حلم أنهم "نفذوا". وكانت هذه الكلمة تحمل معنييْن بالنسبة لمصطفى بن بولعيد، الذي كان يعدّ منذ أيام خطة للهرب من (الكديا).. وكان شرع مع رفاقه منذ عدة أيام، في حفر ممر سري تحت الأرض، أوصلهم في المرة الأولى إلى ساحة مغلقة داخل السجن. فأعادوا الحفر من جديد، ليصلوا بعد ذلك إلى خارج السجن. يوم 10 نوفمبر 1955، بعد صلاة المغرب، وبين الساعة السابعة والثامنة مساءً بالتحديد، كان نصطفى بولعيد ومعه عشرة آخرون من رفاقه، قد هربوا من (الكديا)، وقاموا بأغرب عملية هروب من زنزانة لم يغادرها أحد ذلك اليوم.. سوى إلى المقصلة. بعد ذلك سقط القائد مصطفى بولعيد وبعض من فرّوا معه، شهداء في معارك أخرى لا تقل شجاعة عن عملية فرارهم، فتصدّروا برحيلهم كتب التاريخ الجزائري، وأهم الشوارع والمنشآت الجزائرية. بينما نُفِّذ حكم الإعدام، في من ظلّوا بالزنزانة، دون أن يتمكنوا من الهروب. ولم يبق اليوم من السجناء الأحد عشر الذين هربوا من الكديا، سوى اثنين على قيد الحياة. ومات الرجال الثمانية والعشرون الذين جمعتهم الزنزانة رقم ثمانية يوماً، لقدرٍ كان مقرراً أن يكون.. واحداً. كلما وقفت أمام الجدران العالية لهذا السجن تبعثرت ذاكرتي، وذهبت لأكثر من وجه، لأكثر من اسم، ولأكثر من جلاد. وشعرت برغبة في فتح أبواب سجون أخرى مازالت مغلقة على أسرارها، دون أن تجد كاتباً واحداً يردّ دين من مرّوا بها. وقتها كنت أحسد ذلك الرفيق الذي جمعتني به زنزانة هنا لبضعة أسابيع. كنا آنذاك.. أنا وهو، أصغر معتقلينْ سياسيينْ. وربما كان ياسين يصغرني ببضعة أشهر. كان عمره ستة عشر عاماً فقط. ورغم أنهم أطلقوا سراحي لصغر سنّي، فقد رفضوا أن يطلقوا سراح ياسين. وبقي في سجن (الكديا) أربعة عشر شهراً. يحلم بالحرية.. وبامرأة تكبره بعشر سنوات، كانت في السادسة والعشرين من عمرها.. وكان اسمها "نجمة"! وبينما عدت أنا بعد ستة أشهر من السجن إلى الدراسة، راح ياسين يكتب بعد عدة سنوات رائعته "نجمة". تلك الرواية الفجيعة، التي ولدت فكرتها الأولى هنا. في ذلك الليل الطويل، وفي مخاض المرارة والخيبة والأحلام الوطنية الكبرى. أذكر أن ياسين كان مدهشاً دائماً. كان مسكوناً بالرفض وبرغبة في التحريض والمواجهة. ولذا كان ينقل عدواه من سجين إلى آخر. وكنا نستمع إليه، ونجهل وقتها أننا أمام (لوركا) الجزائر، وأننا نشهد ميلاد شاعر سيكون يوماً، اكبر ما أنجب هذا الوطن من مواهب. مرت عدة سنوات، قبل أن ألتقي بكاتب ياسين في منفاي الإجباري الآخر بتونس. اكتشفت بفرح لا يخلو من الدهشة أنه لم يتغير. مازال يتحدث بذلك الحماس نفسه، وبلغته الهجومية نفسها، معلناً الحرب على كل من يشتمّ فيهم رائحة الخضوع لفرنسا أو لغيرها. لقد كانت له حساسية ضد الإهانات المهذبة، وضد قابلية البعض للانحناء.. الفطري! كان يومها يلقي محاضرة في قاعة كبرى بتونس، عندما راح فجأة يهاجم السياسيين العرب، والسلطات التونسية بالتحديد. ولم يستطع أحد يومها إسكات ياسين. فقد ظل يخطب ويشتم حتى بعدما قطعوا عليه صوت الميكروفون، وأطفأوا الأضواء ليرغموا الناس على مغادرة القاعة. يومها دفعت في جلسة تحقيق مع البوليس ثمن حضوري في الصف الأمامي وهتافي على ياسين "تعيش.. آ ياسين..". لم ينتبه أحد وقتها إلى وجوه من صفّقوا. ولكن بعض من كان يعنيهم الأمر انتبهوا إلى يدي الوحيدة المرفوعة تأييداً.. وإعجاباً. يومها اكتشفت البعد الآخر لليد الواحدة. فقدر صاحبها أن يكون معارضاً ورافضاً، لأنه في جميع الحالات.. عاجز عن التصفيق! احتضنته بعدها وقلت: "ياسين.. لو رزقت ولداً سأسميه ياسين.." وشعرت بشيء من العنفوان والمتعة، كأنني أقول له أجمل ما يمكن أن نقوله لصديق أو لكاتب. فضحك ياسين وهو يربت على كتفي بيدٍ عصبية كعادته عندما يربكه اعتراف ما. وقال بالفرنسية: "أنت أيضاً لم تتغير.. مازلت مجنوناً!" وضحكنا لنفترق لعدة سنوات أخرى. تراني كنت أريد أن أكون وفيّاً لذاكرتنا المشتركة، أم فقط، كنت أريد أن أعوّض بذلك عن عقدتي تجاه "نجمة"، الرواية التي لن أكتبها، والتي كنت أشعر أنها بطريقة أو بأخرى، كانت قصّتي أيضاً. بأحلامي وخيباتي، بملامح (أمّا) الواقفة على حافة اليأس والجنون، الراكضة بين السجن والأولياء الصالحين، تقدّم الذبائح لسيدي محمد الغراب، والعمولات لحارس السجن اليهودي، الذي كان جارنا.. حتى يأتيني بين الحين والآخر بقفّة الأكل الذي تعدّه لي. (أمّا) التي كدت لا أعرفها عندما غادرت السجن بعد ستة أشهر، والتي أمام انشغال أبي عني وعنها، بتجارته وعشيقاته، أصبحت لا تطلب من الله إلا عودتي لها. وكأنني الشيء الوحيد الذي يمكن أن يبرر وجودها، والشاهد الوحيد على أمومتها وأنوثتها المسلوبة. نعم كنا في النهاية جيلاً بقصة واحدة، بجنون الأمهات المتطرفات في الحب، بخيانة الآباء المتطرفين في القسوة، وبقصص حب وهمية، وخيبات عاطفية، يصنع منها البعض روائع عالمية في الأدب، ويتحول آخرون على يدها إلى مرضى نفسانيين. تراني لا أفعل شيئاً بكتابة هذا الكتاب، سوى محاولة الهروب من صنف المرضى إلى صنف المبدعين؟ آه ياسين.. كم تغير العالم منذ ذلك اللقاء.. منذ ذلك الوداع.. أنت الذي أنهيت روايتك قائلاً على لسان ذلك البطل: "وداعاً أيها الرفاق.. أيّ شباب عجيب ذاك الذي عشناه!." لم تكن تتوقع وقتها، أن عمرنا سيكون أعجب من سنوات شبابنا بكثير! غداً سيكون عرسكِ إذن.. وعبثاً أحاول أن أنسى ذلك، وأمشي في شوارع قسنطينة، يسلّمني زقاق إلى آخر.. وذاكرة إلى أخرى. أما قلتِ إنك لي مادمنا في هذه المدينة؟ أين تكونين الآن إذن؟ في أي شارع.. في أي زقاق من هذه المدينة المتشعّبة الطرقات والأزقة كقلبك، والتي تذكّرني بحضورك وغيابك الدائم، وتشبهك حد الارتباك؟ لستِ لي.. أدري أنهم يعدّونك الآن لليلة حبك القادمة. يعدّون جسدك لرجل آخر ليس أنا. بينما أهيم أنا على جرحي لأنسى الذي يحدث هناك. مليئاً كان يومك، كيوم عروس، وفارغاً كان يومي، كيوم موظّف متقاعد. منذ زمان أخذ كلّ واحد منا طريقاً مخالفاً للآخر. وها نحن نعيش بمفّكرتين متناقضتينْ، إحداهما للفرح وأخرى للحزن. فكيف أنسى ذلك؟ كانت كل الطرق تؤدي إليك، حتى تلك التي سلكتها للنسيان، والتي كنت تتربّصين لي فيها. كلّ المدارس والكتاتيب العتيقة.. كل المآذن.. كلّ "البيوت المغلقة".. كلّ السجون.. كل المقاهي.. كل الحمامات التي كانت تخرج منها النساء أمامي جاهزات للحب، كل الواجهات التي تعرض الصيغة والثياب الجاهزة للعرائس. وحتى.. تلك المقبرة التي ألقيت نفسي في سيارة أجرة، ورحت أبحث فيها عن قبر (أمّا)، وأستعين بسجلات حارسها لأتعرف على أرقام الممرات التي كانت توصل إليها.. أوصلتني إليك لا غير. (أمّا).. لماذا قادتني قدماي إليها ذلك اليوم بالذات، في ليلة عرسك بالذات؟ أرحت أزورها فقط.. أم رحت أدفن جوارها امرأة أخرى توهمّتها يوماً أمي؟ عند قبرها الرخامي البسيط مثلها، البارد كقدرها.. والكثير الغبار كقلبي، تسمّرت قدماي، وتجمّدت تلك الدموع التي خبأتها لها منذ سنوات الصقيع والخيبة. ها هي ذي (أمّا).. شبر من التراب، لوحة رخامية تخفي كل ما كنت أملك من كنوز. صدر الأمومة الممتلئ.. رائحتها.. خصلات شعرها المحنّاة.. طلّتها.. ضحكتها.. حزنها.. ووصاياها الدائمة.. "عندك يا خالد يا ابني..". (أمّأ) عوّضتها بألف امرأة أخرى.. ولم أكبر. عوّضت صدرها بألف صدر أجمل.. ولم أرتوِ. عوّضت حبها بأكثر من قصة حب.. ولم أشف. كانت عطراً غير قابل للتكرار. لوحة غير قابلة للتقليد ولا للتزوير. فلماذا في لحظة جنون تصوّرت أنك امرأة طبق الأصل عنها؟ لماذا رحت أطالبك بأشياء لا تفهمينها، وبدور لن تطاليه؟ هذا الحجر الرخاميّ الذي أقف عنده أرحم بي منك. لو بكيت الآن أمامه.. لأجهش بدوره بالبكاء. لو توسّدت حجره البارد، لصعد من تحته ما يكفي من الدفء لمواساتي. لو ناديته (يا أمّا..) لأجابني ترابه مفجوعاً "واش بيك آ ميمة..؟". ولكن كنت أخاف حتى على تراب (أمّا) من العذاب، هي التي كانت حياتها مواسم للفجائع لا غير. كنت أخاف عليها حتى بعد موتها من الألم، وأحاول كلّما زرتها أن اخفي عنها ذراعي المبتورة. ماذا لو كان للموتى عيون أيضاً؟ ماذا لو كانت المقابر لا تنام.. كم كان يلزمني من الكلام وقتها لأشرح لها كل ما حلّ بي بعدها؟ لم أجهش ساعتها بالبكاء، وأنا أقف أمامها بعد كلّ ذلك العمر. نحن نبكي دائماً فيما بعد. مرّرت فقط يدي على ذلك الرخام، وكأنني أحاول أن أنزع عنه غبار السنين وأعتذر له عن كل ذلك الإهمال. ثم رفعت يدي الوحيدة لأقرأ فاتحة على ذلك القبر.. بدا لي وقتها ذلك الموقف، وكأنه موقف سريالي. وبدت يدي الوحيدة الممدودة للفاتحة وكأنها تطلب الرحمة بدل أن تعطيها.. فتنهّدت.. وأخفيت يدي. ألقيتها داخل جيب سترتي.. وألقيت بخطاي خارج مدينة التراب.. والرخام. ***