فوضى الحواس2 مذهل هذا الرجل, بكلامه المربك كصمته, ومنطقه المعقد والبسيط في الوقت نفسه, وأجوبته التي ليست سوى رؤوس أقلام.. لأسئلة أخرى. وبرغم أنه لم يترك لي مجالا لطرح أي سؤال "طبيعي" فقد اكتشفت في قوانين منطقة شرعية احراجه, واستدراجه لقول حقيقة.. لن تؤخ1 منه إلا بالمقلوب! ولذا بادرته قائلة بشيء من السخرية: - أنت رجل يغري بطرح الأسئلة معكوسة.. فهل لديك شجاعة كافية للرد على أسئلتي؟ أجاب بتحد مازح: - هذا عائد إلى ذكائك! رفعت التحدي. وطرحت سؤالي الأول: - أي اسم كنت تريد أن تحمل؟ وجاء جوابه مدهشا: - الاسم الذي اخترته لي في كتابك.. إنه يناسبني كان يضحك وهو يجيبني. ولم أصدق ما سمعت. جوابه كان يعني أنه يدري من اكون. ولكن, من تراه يكون هو.. ليتحدث إلي وكأنه خارج توا من قصتي؟ أجبته كمن يمزح: - ولكن.. أنا لم أختر لك اسما بعد.. رد بالسخرية نفسها: - فليكن.. يناسبني تماما أن أبقى بلا اسم! - ولكن هذا يزعجني.. ألا يمكنك أن تخلع قليلا من غموضك؟ - وحده الحب يعرينا يا سيدتي.. - هل أفهم أنك لست عاشقا..؟ بقي سؤالي معلقا إلى صمته, فتداركت خطأي, وأعدت طرح السؤال بصيغة أخرى. - هل حدث للحب أن عرّاك؟ - حدث ذلك مرة واحدة. بعدها لبست خيبتي ولم أخلعها بعد. قلت بنشوة أنثى: - إذن ليس في حياتك امرأة؟ أجاب: - كم يلزمني من الصمت يا سيدتي.. لأرد على أسئلتك؟ كان علي أن أفهم "كم يلزمني من الصبر يا سيدتي لأرد على فضولك" أو ربما "لأرد على أسئلتك الغبية".. ولكن هذه الإهانة المهذبة ليست ما استوقفني. وإنما كلمة أخرى شديدة التهذيب. سألته: - لماذا تناديني "سيدتي".. من أخبرك أنني متزوجة؟ - ابتسم وقال: - ثمة نساء خلقن هكذا بهذا اللقب.. جئن العالم بهذه الرتبة. وأية تسمية أخرى هي إهانة لأنوثتهن. وقبل أن أسعد بجوابه, واصل بعد شيء من الصمت: - ما عادا هذا فحالتك المدنية لم تعد تعنيني.. صيغة النفي في جملته الأخيرة, فاجأتني. شعرت أنها تخفي سابق ما. أو أمرا لا يريد الإفصاح عنه. سألته: - لماذا قلت "لم" تعد تعنيني.. وليس لا تعنيني؟ رد بسؤال كاذب: - أقلت هذا حقا؟ وصمت. كان واضحا أنه يعرف شيئا عني. والمزعج, أنني لم أكن قد عرفت بعد شيئا عنه. ولذا قررت أن أواصل التحدي مستعملة طرقه المقلوبة, في طرح الأسئلة. قلت: - لم يحدث أن التقيت بشخص يشبهك في هذه المدينة, بي فضول لمعرفة أي مدينة تسكنك؟ ولكنه رد ساخرا وكأنه اكتشف الهدف من سؤالي: - لن يفيدك جوابي في شيء. أنا كالكتاب الذين يسكنون مدينة كي يكتبوا عن أخرى. أسكن مدينة, لأتمكن من حب أخرى. وعندما أغادرها, لا أدري أيهما كانت تسكنني.. أيهما سكنت. أنا حالياً شقة شاغرة. غادرت قسنطينة عن حب.. وغادرتني هي عن خيبة! - أأنت من قسنطينة؟ عجيب.. توقعت أن تكون غريبا عنها. - لنقل إنني كذلك. - وماذا تعمل في الحياة؟ ..أقصد ما كنت تريد أن تكون؟ قال ضاحكا لاستدراكي, وللنبرة الساخرة التي صححت بها سؤالي: - في الواقع كنت أريد أن أكون ممثلا.. أو روائيا, كي أعيش أكثر من حياة.. إن حياة واحدة لا تكفيني. أنا أنتمي إلى جيل يعاني أزمة عمر, وأنفق حياته قبل أن يعيشها. وأضاف: - ما عدا هذا.. أنا رسام, وراض تماما عن مهنتي, لأنني لا أفعل بيدي إلا ما أريد. قاطعته مندهشة: - أنت رسام؟! - وماذا توقعت أن أكون؟ - لا أدري .. ولكن.. - ولكن ماذا؟ - كنت أعرف في السابق رساما من قسنطينة.. تذكرته اللحظة. أذكر أنه كان مهووسا بها إلى درجة أنه لم يكن يرسم سوى.. قاطعني قائلا: - سوى الجسور.! صحت: - هل عرفته أنت أيضا؟ ابتسم وقال: - لا.. ولكن, أتوقع لرسام يحب هذه المدينة, أن يرتكب حماقة كهذه. - ولماذا تسمي هذه حماقة؟ - لنقل أنني لا أحب الجسور.. - عجيب.. لقد قضى هو أشهرا في إقناعي بالعكس, توقعت أن يحب الرسامون المعالم نفسها. أطفأ سيجارته وكأنه يريد أن ينتهي من موضوع مزعج وقال: - ما أدراك.. ربما يكون قد غير رأيه منذ ذلك الحين.. وحدهم الأغبياء لا يغيرون رأيهم! استنتجت أن حديثي عن قسنطينة يزعجه؛ فرحت أبحث عن موضوع أستدرجه به إلى الكلام. وقبل أن أنطق قال وهو يتأملني: - أحبك في هذا الثوب .. الأسود يليق بك.. - حقاً؟ - حقاً. ولكن أكثر من هذا اللون. أحب المصادفة التي جعلتنا نرتد اللون نفسه اليوم أيضا. مازلت أذكر ذلك الثوب الذي كنت ترتدينه يوم رأيتك أول مرة. حتى إنني كما في قصة ذلك الأمير الذي لم يبق له من (سندريلا) سوى حذاء ليتعرف به إلى فتاة لا يعرف سوى مقاس قدمها, أتوقع أنني لو رأيت امرأة ترتدي ثوبا من الموسلين للحقت بها, متأكدا من كونها أنت. نفض سيجارته ببطء وواصل: - الذي أحزنني يومها. هو أنني لم أستطع أن أتبادل معك ولو كلمة واحدة. كل الأضواء كانت ضدنا. ربما لأننا كنا الأجمل في زفاف كان لغيرنا. أذكر.. كانت الفرقة الموسيقية تعزف أغاني للفرح, عندما توقفت فجأة, وراحت تعزف موسيقى الدخلة إيذاناً بقدوم العروسين. واصطف على الجانبين نساء في كل زينتهن التقليدية, يضربن على البندير والدفوف. في تلك اللحظة بالذات, كنا ندخل مصادفة معاً, مرتدين اللون نفسه, عندما انطلقت زغاريد النساء حولنا. لم نكن العروسين, وجدنا هناك خطأ في تلك اللحظة, وذلك المكان بالذات. فقد كنا سابقين للعروسين بخطوات فقط. ولكن كان مرورنا معا في تلك اللحظة هو الخطأ الأجمل. فبعدنا بدا الموكب الشرعي أقل تألقا في بياضه. لم يغادرني هذا المشهد أبدا بع ذلك لسنوات. لكأنهم زفوك إلي وهما في ذلك الثوب الأسود. سحب نفسًا من سيجارته ثم واصل: - أذكر يومها تبعثرنا ارتباكا في تلك القاعة. رحت تحادثين آخر, ورحت أحادث أخرى باهتمام مقصود. أخذ كل واحد منا مكانا في مجلس مختلف, تفاديا لمزيد من الأضواء والأخطاء. ولكننا لم نذهب أبعد من بعضنا بعضا. لقد كنا متقابلين حتى في تجاهلنا المتعمد أحدنا للآخر. لا أعتقد أن تكوني قد اشتهيتني في البدء, ولا أنا اشتهيتك. الحب هو الذي اشتهانا معاً, وحلم ببطلين يشبهاننا تمامًا ليمثلا دورا على هذا القدر من الغرابة. كنت أستمع إليه. دون أن أجرؤ على مقاطعته بكلمة. وجدت في صمتي ملاذاً, وإيهاما له بأنني أعرف كل هذا, إضافة إلى تلك الحالة الجمالية التي يضفيها الصمت في مواقف كهذه. شعرت أنه يتحدث عن امرأة غيري. فأنا لا أذكر أنني ذهبت إلى زفاف بمفردي ولبست ثوبا كهذا, لأنني لا أملك أصلا في خزانتي أي ثوب من الموسلين الأسود. ولو حدث هذا, ودخلت قاعة زفاف خطأ, صحبة رجل غريب على هذا القد من التميز, لما كنت نسيت ذلك. ولا كانت هذه المدينة التي تحترف الإشاعات, منحتني فرصة النسيان. خفت أن أصارحه, فأكسر كثيرا من جمالية وهم كل منا بالآخر. فبقيت صامتة, كي استمتع بوضعي الملتبس بين امرأتين, واحده يطاردها لأنها ترتدي الأسود, والأخرى تطارده لأنه قال "قطعا". في النهاية.. كان كلانا بالنسبة إلى الآخر سندريلا والأمير في الوقت نفسه. وكان هذا أغرب ما في قصتنا! لم أجد شيئا أعلق به على كلامه. سوى جملة أردتها أن تحمل أي تفسير: قلت: - كم لنا من البدايات لقصة واحدة! أجاب: - ولهذا كنت واثقا تماما, أننا سنلتقي. بل إنني تصورت لنا لقاءً مشابها لهذا.. ثم توقف قليلا وواصل: - أتدرين لماذا تركت لسائق التاكسي حرية اختيار مكان لنا, وجازفت بموعدنا الأول؟ وقبل أن أسأله "لماذا؟" واصل: - لأنه في الحب أكثر من أي شيء آخر, لابد أن تكون لك علاقة ثقة بالقدر. أن تتركي له مقود سيارتك. دون أن تعطيه عنوانا بالتحديد. أو تعليمات صارمة, بما تعتقدينه أقصر الطرق. وإلا فستتسلى الحياة بمعاكستك, وتتعطل بك السيارة. وتقعين في زحمة سير.. وتصلين في أحسن الحالات متأخرة عن أحلامك! قلت: - إن أمرا كهذا يتطلب كثيرا من الصبر. وأنا امرأة لا تعرف الانتظار. أجاب: - أنت لم تعرفي الحب إذن! قلت: - بل عرفته.. ولكن معرفتي به لم تزدني إلا عجلة. ولهذا ربما.. كثيرا ما أخطأت. علمني الحب أن لا أصدقه فما استطعت. وعلمني أن أتعرف إليه قبل أن أحتفي به, فما استطعت. مازلت أمام قطار الحب, أرى في كل نازل قدومه, فأحمل عنه أمتعته, وأسأله عن رحلته, وعن مهنته, وعن أسماء المدن التي مر بها, والنساء اللاتي مررن به, ثم أكتشف وهو يحادثني, أنه أخطأ بين قطارين وجهته.. فأذهب نحو حب آخر, وأتركه مذهولا من أمري جالسا على حقيبته! كان يستمع إلي بشيء من الاهتمام, الذي قد يكون سببه احتمال أن يكون هو أيضا, في تلك اللحظة جالسا على حقيبته.. دون علمه. ألهذا قال وهو ينفض رماد سيجارته في المنفضة ببطء مدروس: - أتمنى أن تغادري بعد الآن هذه المحطة.. ساد بيننا شيء من الصمت, الذي لم أعرف كيف أكسره سوى بسؤال بدا لي ساذجا بعد جملة كهذه. كان الأصح أن أقول "كيف؟" ولكنني سألته: - لماذا؟ وجاء الجواب مباغتا في صرامته: - لأنني آخر راكب ينزل من هذا القطار. لقد كان الطريق إليك طويلا. بعدي توقفت كل الرحلات. فلا تنتظري شيئا يا سيدتي.. لقد أعلنتك مدينة مغلقة! كيف يمكن لامرأة أن تقاوم رجلا ثملا بهذا القدر من الكبرياء؟ وهل ثمة أجمل من حب يولد بشراسة الغيرة, واقتناعنا بشرعية امتلاكنا لشخص ليس لنا.. نراه لأول مرة! كان على قد من إغراء الرجولة في تلقائيتها. وهو يلفظ هذا البلاغ العشقي الأول بهدوء مربك في ثقته, بحيث لم يبق من مجال لسؤال منطقي مثل "بأي حق تقول هذا؟" فقد وقعت بجملة, تحت سطوة الحب وجنونه, ورحت أتبادل معه حوارا خارج المنطق: - ولكنني لا أعرف عنك شيئا.. - هذا أجمل. - ولا تعرف عني أكثر من وهم الموسلين.. - لا يهم.. - وتعتقد أنك قادر على إيقاف صفير القطارات وندائها السري داخلي..؟ - قطعا.. - وهل تظن أنه من السهل أن نكون عاشقين.. في هذا الزمن المضا للحب؟ - طبعا - ولكننا نذهب نحو تورط عشقي.. - حتما يا سيدتي! - وقبل أن أجمع دهشتي لأضيف شيئا. كان يرفع يده ويطلب من النادل الحساب.. وسيارة أجرة. وما هي إلا دقائق حتى كنا متجهين معا صوب فراق, ونحن بعد مقبلان على حب. عطره كصوتي. لم يكن هذه المرة مرتفع النبرة. سألته: - متى نلتقي؟ أجاب: - سأتصل بك. لم يترك لي من فسحة سوى لعلامة تعجب. - تتصل بي؟ كيف؟ وجاء الجواب هادئا: - لا تقلقي.. أعرف كل شيء. - ولكن.. - أعرف. كانت السيارة تنزل بنا نحو ضجيج قسنطينة الاعتيادي. وكنا منعطفا بعد آخر نتسلق حبا شاهقا في صمته التصاعديّ. فجأة, طلب من السائق أن يوقفه أمام ضوء أحمر, ومدّه أمام دهشتي بورقة نقدية.. وبعنواني كاملا, طالبا منه أن يوصلني حتى الباب. ثم انحنى نحوي وكأنه سيضع قبلة على خدّي.. ولكنه لم يفعل. همس في أذني: "من الأحسن أن لا نعود معاً؛ هذا أكثر أمانا لك" ثم أضاف كمن نسي شيئاً: "سأشتاقك". وغادر السيارة.. ليتركني تحت وقع المفاجأة. * * * * هو الحب إذن.. دوماً.. يقدم لي أوراقه الثبوتية على هذا النحو. في حالة من انسياب العواطف, يأتي رجل لا أحتاط من بساطته, أطمئن نفسي بكونه ليس هو الأجمل, ولا هو الأشهى, وفي تلك اللحظة التي أتوقعها الأقل, يقول كلاما مربكا, لم يقله قبله رجل. وإذ به يصبح الأهم. غالبا.. وأنا ألهو باندهاشي به تبدأ الكارثة. الحب ليس سوى الوقوع تحت صاعقة المباغتة! مرةً أخرى.. ها هو ذا يذهب ويتركني معلقة إلى علامات الاستفهام. تنتابني حالة لم أعرفها من قبل: مزيج من أحاسيس عجيبة تفاجئني وأنا أغادر تلك السيارة, وأسرع نحو البيت ببراءة امرأة عائدة من السوق, أو من زيارة, لا من موعد في مكان لا تعرفه مع رجل لا تعرفه. ولكنه يعرفها! أغلق باب غرفتي. أخلع بسرعة ثوبي الأسود, وكأنني أخلع تهمة على عجل. أجلس على طرف سريري منهكة, مبعثرة تائهة النظرات. أحاول أن أفهم ما حدث لي تماما, أن أستعيد كل الذي قاله ذلك الرجل في ساعة ونصف, كل تفاصيل حوارنا الذي لم يسألني فيه سوى سؤال أو سؤالين, بينما طاردته أنا بالأسئلة دون جدوى, ما دمت قد عدت في النهاية بأسئلة أكثر , لم أكن أتوقع معظمها. ليس أقلها: من يكون هذا الرجل؟ ومن أين له كل تلك المعلومات؟ وكيف يعرف حتى عنوان بيتي؟ طبعًا, في منطق الأشياء كان يجب أن أعرف عنه أكثر مما يعرف عني, مادام ليس إلا بطلا في قصتي. ولكن, أصبح إبداعي الآن يقتصر على التحايل عليه, لاكتشاف قصتي الأخرى وهي تُروى على لسانه. كتلك اللحظة التي حدّثني فيها عن موعدنا الأول, وعن ثوب الموسلين الأسود الذي كنت أرتديه يومها. وكان يمكن أن أصدق احتمال لقاء كهذا.. لو أنه كان يوجد في خزنتي ثوب من الموسلين الأسود. ولم أقاطعه عمدا, ولا علقت على كلامه؛ اكتفيت بالاستماع إليه باندهاش مستتر, وربما بغيرة سرية من تلك المرأة التي فجّرت فيه يوما كل هذه الأحاسيس الجميلة. قادتني هذه الفكرة إلى اكتشاف فاجأني. لقد ولدت قصتي معه, أيضا في لحظة غيرة. فقد كان هو الرجل الذي كنت أبحث عنه لأقيس نفسي به. ولذا منذ البدء لم يفارقني إحساس بالغيرة منه والغيرة عليه, ورغبة في قتل تلك المرأة والحلول محلها, دون أن أترك بصماتي على عنق الكلمات. منذ البدء, لا هاجس لي سواها. حتى إنني سألته مرتين إن كان في حياته امرأة, وأجابني في المرتين بالنفي. وربما كان هذا أجمل ما قال لي. طبعًا لم يكن هناك من مبرر لسعادتي؛ فأنا ما زلت أذكر ذلك الذي سألته في أول موعد لنا: "هل في حياتك امرأة؟" وأمام فرحتي بجوابه, أضاف "لا تفرحي.. من الأفضل أن تحبي رجلاً في حياته امرأة.. على أن تحبي رجلاً في حياته قضية. فقد تنجحين في امتلاك الأول, ولكن الثاني لن يكون لك.. لأنه لا يمتلك نفسه!". ولم أمتلكه. أخذته مني تلك القضية إلى الأبد. ولا استفدت برغم ذلك من نصيحته: ما زلت في الحياة أحب الرجال الذين في حياتهم قضية, وفي الروايات, أحب الأبطال الذين في حياتهم امرأة. وكان أجدر بي.. لو فعلت العكس! ذات لحظة, راودني احتمال أن يكون في حياة هذا الرجل أيضاً قضية ما, تبرر حزنه الباذخ, ونوبات صمته, ونزعته إلى التهرب من الأسئلة. وهي صفات كثيراً ما خبرتها في هذا النوع من الرجال. ولكنني استبعدت احتمالاً كهذا. فقد انتهى زمن القضايا الكبيرة, والقضايا الجميلة, التي كانت تجعل جيلا كاملا من الرجال يبدو أكثر عنفوانا وتألقا مما هو. في الدكاكين السياسية, التي يديرها حكام زايدوا علينا بدهاء في كل قضية.. باعونا "أم القضايا" وقضايا أخرى جديدة, معلبة حسب النظام العالمي الجديد, جاهزة للالتهام المحلي والقوميّ. فانقضضنا عليها جميعا بغباء مثاليّ. ثم متنا متسممين بأوهامنا, لنكتشف, بعد فوات الأوان, أنهم مازالوا هم وأولادهم على قيد الحياة يحتفلون بأعياد ميلادهم فوق أنقاضنا .. ويخططون لحكمنا للأجيال القادمة. ولذا.. منذ "تلك القضية" انقرض الحالمون, وسقط فرسان الرومانسية من على خيولهم! توصلني هذه الخواطر إلى زوجي الذي لم أمتلكه أيضاً. لا لكوني أقتسمه مع امرأة أخرى "شرعية".ولكن لأنه ملك للمسؤولية. ولأن الكرسي هو قضيته الوحيدة. في النهاية, أكاد أصل إلى نتيجة مخيفة: الحب قضية محض نسائية. لا تعني الرجال سوى بدرجات متفاوتة من الأهمية, بين عمرين أو خيبتين, وعند إفلاس بقية القضايا "الكبرى". أمن هنا يأتي حزن النساء.. أمام كل حب؟ فجأة ينتابني إحساس بالخوف من هذه القصة التي ستؤلمني حتماً. وبرغم ذلك أتوقع أن أنجرف نحوها دون رادع, ودون الاستفادة من كل ما تعلمته في الحياة. في مواجهة الحب, كما في مواجهة الموت, نحن متساوون. لا يفيدنا شيء: لا ثقافتنا.. لا خبرتنا.. ولا ذكاؤنا.. ولا تذاكينا. نذهب نحو الاثنين. مجردين من كل الأسلحة.. ومن كل الأسئلة. وأنا التي واجهت الحب عزلاء دائما, أتوقع أن يأخذ بعين الاعتبار, شغفي بهزائمه. ويعوضني عن ل خسارة معه بخسارة جميلة أخرى. ولذا لم يعنني يوما, أين هو ذاهب بي حصان الحب الجامح. مادامت حريتي معه تقتصر على الموت بسببه.. أو الموت دونه! ما يشغلني حقا هو كيف أواصل كتابة هذه القصة بالنزاهة نفسها. كيف لي بعد الآن, أن أكون الراوية والروائية لقصة هي قصتي. والروائي لا يروي فقط. لا يستطيع أن يروي فقط. إنه يزور أيضا. بل إنه يزور فقط. ويلبس الحقيقة ثوبا لائقا من الكلام. ولذا فإن كل روائي يشبه أكاذيبه, تماما كما يشبه كلّ امرئ بيته. وصلت إلي هذه الفكرة وأنا أتذكر ما قرأته عن الكاتب الأرجنتيني بورخيس الذي أصبح أعمى تدريجيا, والذي كان عندما يصل إلى مكان, يطلب من مرافقه, أن يصف له لون الأريكة, وشكل الطاولة فقط. أما الباقي, فكان بالنسبة إليه "مجرد أدب". أي بإمكانه أن يؤثثه في عتمته.. كيفما شاء. عندما تعمقت في منطقه, اكتشفت أن كل رواية ليست سوى شقة مفروشة بأكاذيب الديكور الصغيرة, وتفاصيله الخادعة, قصد إخفاء الحقيقة, تلك التي لا تتجاوز, في كتاب, مساحة أريكة وطاولة. نفرش حولها بيتا من الكلمات, منتقاة بنوايا تضليلية, حد اختيار لون السجاد.. ورسوم الستائر.. وشكل المزهرية. ولذا.. تعلمت أن أحذّر الروائيين الذين يكثرون من التفاصيل: إنهم يخفون دائما أمراً ما! تماماً, كما يحلوا لي أن أتسلى بقراء يقعون في خدعتها, بحيث لا ينتبهون لتلك الأريكة التي يجلسون فوقها طوال قراءتهم لذلك الكتاب متربعين على الحقيقة. منذ الأزل.. وأنا أبحث عن قارئ يتحداني, ويدلني أين توجد "الطاولة" و"الأريكة" في كل كتاب! زوجي مثلاً, لم يوفق يوما في تمييز الأثاث الحقيقي عن الأثاث المزيف في أي نص كتبته. ولذا أصبح يبدي انزعاجه من جلوسي لساعات أمام طاولة الكتابة, بدل تخصيص هذا الوقت لطفل لا يأتي, دون أن يعترف تماما بأن ما يزعجه هو الكتابة في حد ذاتها. كعمل مواجهة, ومراوغة صامتة. لم يستطع _ برغم إمكانياته البوليسية_ التجسس على مصداقيتها. وبدل أن يواجهني بحقيقة أفكاره, راح يوجّهني من طبيب إلى آخر. ويبعث بي من مدينة إلى أخرى, ليحوّل الأمومة مشكلتي وقضيتي الأولى. لم أعد أذكر كم زرت من الأطباء بتوصيات خاصة, وكم من أضرحة للأولياء أجبرتنني أمي على التبرك بها. سنتان وأنا أرافقها دون اقتناع. وحتى دون رغبة حقيقية في "الشفاء" من عقمي. يمكنني أن أقول بأنني كنت أذهب فضولاً.. وربما استسلاماً لا أكثر. أحيانا, أحب استسلامي. يمنحني فرصة تأمل العالم دون جهد. وكأنني لست معنية به. في الواقع, أثناء ذلك أكون في حالة كتابة.. صامتة. كهذا المساء, أتوقع أن أمارس عادتي في الكتابة, صمتًا, وأنا أتفرج على زوجي, وهو يخلع بذلته العسكرية, ليرتدي جسدي للحظات, ثم.. يغرق في النوم. دوماً, كان ضابطاً يحب الانتصارات السريعة حتى في سرير. وكنت أنثى تحب الهزائم الجميلة, والغارات العشقية التي لا تسبقها صفارات إنذار.. ولا تليها سيارات إسعاف, وتبقى إثرها جثث العشاق أرضاً. بي افتتان بقصف عشوائيّ, يموت فيه الأبرياء عشقاً.. على مرمى اشتهاء, دون أن يكون لهم الوقت ليسألوا: لماذا؟ تمنيت أحيانا, لو أنه مارس الحب معي دون أن يخلع بذلته. ربما كان ببذلته تلك, فتح له طريقا إلى جسدي بالقوّة. فقد كنت دائما مأخوذة بقوته. ولكنّه هذه الليلة أيضاً لن يفعل. لأنه يخاف عليها أن "تتجعلك". وربما –فقط- لأنه رجل بلا خيال. بل بالأحرى هو ينفق خياله وذكاءه خارج هذا السرير. في النهاية, الرجال الذين خلقوا لكرسيّ, لم يخلقوا بالضرورة لسرير. والذين يبهروننا بثيابهم ليسوا الذين يبهروننا بدونها. والمشكلة أننا نكتشف هذا فيما بعد! الليلة أيضاً, سأسترق النظر إليه وهو يخلع قوته ويرتدي منامته. وأستعيد دون قصد ذلك الحوار الجميل في مسرحية ألبير كامو "حالة حصار". - اخلع ثيابك!.. عندما يغادر رجال القوة بذلتهم لا يكونون جميلين للرؤية. ويأتي الجواب: - ربما.. ولكن قوتهم تكمن في اختراعهم لتلك البذلة! طبعا.. فاللباس ليس سوى "الإشعار" الذي نريد إيصاله إلى الآخرين. ولذا ككل إشاعة, هو يحمل دائما نية التضليل, حسب منطق ذلك الرجل الباذخ الحزن, والذي يرتدي الفرح إشاعة. وهكذا, تكمن عبقرية العسكر, في اختراعهم البذلة العسكرية التي سيخيفوننا بها. ويكمن دهاء رجال الدين, في اختراعهم لثياب التقوى التي سيبدون فيها وكأنهم أكثر نقاءً وأقرب إلى الله منّا. وذكاء الأثرياء, في اختراعهم توقيعات لكبار المصممين. كي يرتدوا من الثياب ما يميزهم عنّا, ويضع بيننا وبينهم مسافة واضحة! وهو.. لماذا تراه اختار الأسود؟ أم ليأتي مطابقا للون جئته فيه مصادفة. واختارته لي الحياة بنية التضليل, كي أعطيه إشعارا كاذبا.. بأنني "هي"! * * * * عشرة أيام من الترقب الصامت. حاولت خلالها أن أتجاهل أنني أنتظر شيئا. ولكنني لم أستطع أن أفعل غير ذلك. كنت لسبب غامض, واثقة من أنه سيتصل بي, بطريقة أو بأخرى. ولكن الحياة كانت تكذب حدسي يوما بعد آخر. هو نفسه لم يقل شيئا وهو يودعني عدا "سأشتاقك". كان رجلا يعيش خارج الزمن. فكيف وجدت في هذه الكلمة وعداً بشيء ما؟ كان اليأس يتسلل إلي تدريجيا, ليكتسح مساحات شاسعة, ملأتها أملا. حتى إنني أصبحت لا أغادر البيت خوفا من أن يأتي هاتفه أثناء غيابي. ولكن الهاتف لم يكن يحمل سوى ثرثرة أمي ومشاريعها العادية. منذ قليل طلبتني لتخبرني بأنها ستحضر لقضاء اليوم معي, مستفيدة من تغيب زوجي ليومين. ما إن فتحت لها الباب.. حتى أطلقت علي وابل أسئلتها وهي تتأملني مذعورة كعادتها: - واش بيك يا بنتي.. زيّك ما عجبنيش.. "ماذا بي؟" أكاد أضحك لسؤال كان لابد أن تطرحه عليّ بالمقلوب, على طريقة ذلك الرجل, كي أجيبها عما ليس بي. فذلك أسهل عليّ. أصمت لأنها في جميع الحالات لن تفهم. تواصل: - راني جبت لك معاي شوية "بسيسة" حمصتها لك البارح.. درُك ندير لك بيها صحن "طمّينة".. غير تاكليها تولّي زي الحصان.. من قال لأمي أنني أريد أن أصبح مثل الحصان؟ هذه المرة لا أمنع نفسي من الابتسام وأنا أراها تهجم على المطبخ, معتقدة أن مشكلتي هي الأكل لا غير؛ وان لا احد يهتم بي ويطبخ لي ما أحب. ولأنني حدث أن أحببت يوما هذه "الطمينة" فستظل أمي تطاردني بها حتى أخر أيامي, أو أخر أيامها. والطمينة هي صحن مكون من خليط من العسل والسمن وطحين الحمص. وهي تقدم للنفساوات ليستعدن قوتهن بعد الوضع. وتقدم أيضا للضيوف الذين يأتون ليطمئنوا إلى النفساء. وربما يكون اسمها قد جاء من هنا. ولا اذكر كم من كميات أكلت من هذه "الطمينة", مع فطور الصباح وقهوة بعد الظهر, دون أن أتساءل مثل اليوم أكانت أمي تعدها لي كل فترة بنية تغذيتي أم بنية استدراج القدر كي تحل البركات في هذا البيت وتسعد يوما بتقديم "طمينتها" لضيوف سيأتون ليطمئنوا إلي.. والى حفيدها! حول فنجان قهوة, وصحن طمينة, ها نحن نجلس لنطمئن إلى بعضنا بعضا, وكأننا لم نتحدث يوميا على الهاتف, أو كان في هذه المدينة ما يستحق الحديث كل يوم. تسألني عن أخبار زوجي. أجيب انه جيد. وأكاد لا أجيب. مرة أخرى أتذكر فلسفة ذلك الرجل الذي كان يجيب بالصمت عن الأسئلة الغبية. لأن الناس يسألونك عن أخبار زوجتك.. لا عن أخبار المرأة التي تحب. ولكن كيف لأمي أن تسألني عن أخبار رجل لا أعر أنا نفسي اسمه, ولا تعرف هي أنه حبيبي. وماذا تراها ستجيب لو قلت له في نوبة جنون, إنني أحب رجلاً آخر.. غير زوجي؟ تراها عرفت الحب لتفهمني. هي التي لم تعرف حتى معنى الزواج. وتحملت نتائجه فقط. كم مرة تراها مارست الحب في حياتها؟ خمس سنوات من الزواج. كانت خلالها تسكن في بلد وأبي في آخر. ولم يكن يعود من الجبهة إلى تونس, إلا مرة كل بضعة أشهر, ليقضي معها بضعة أيام لا أكثر, يعود بعدها إلى قواعد المجاهدين. حيث كانت تنتظره مسؤولية إدارة العمليات في الشرق الجزائري. ذات يوم, ذهب ولم يعد. كان له أخيرًا شرف الاستشهاد, ولها قدر الترمل في العمر الذي تتزوج فيه الأخريات. في الثالثة والعشرين من عمرها, خلعت أمي أحلامها. خلعت شبابها ومشاريعها, ولبست الحداد اسمًا أكبر من عمرها ومن حجمها. لقد وقعت في فخ الرموز الكبرى, بعدما وقعت قبله في فخ الزواج المدبر. وهذه المرة أيضا لم يستشرها أحد, إن كان هذا الاسم الكبير يناسبها ثوبا أسود حتى آخر عمرها, وإن كانت تفضل أن تكون زوجة لرجل عادي, أو أرملة لرمز وطني. لقد وجدت نفسها أمام الأمر الواقع, بطفلين صغيرين.. واسم كبير! ومنذ ذلك الحين, وهي تواصل طريقها هكذا, بجسد ليس لها, وبقدر يرضي كرامة الوطن, الوطن الذي يملك وحده,متى شاء, حق تجريدك من أي شيء, بما في ذلك أحلامك, الوطن الذي جردها من أنوثتها, وجردني من طفولتي.. ومشى. وها هو ذا, يواصل المشي على جسدي وجسدها, على أحلامي وأحلامها, فقط بحذاء مختلف. إذ لبس معي جزمة عسكرية.. ومعها حذاء التاريخ الأنيق. أتأملها في أنوثتها المعطوبة, في جمالها المسالم, في مرحها البسيط الذي يجاور الحزن. ها هي ذي غامضة وهادئة كالجوكوندا. وأنا أكره الجوكوندا. أكره الملامح الهادئة, والأنوثة المسالمة,والأجساد الباردة. فمن أين جاء أمي كلّ هذا الصقيع؟ أمن استسلامها للقدر أم من جهلها؟ ومن أين جاءتني أنا كلّ هذه الحرائق؟ أمن تمردي على كل شيء؟ أم من براكين الكلمات التي تنفجر داخلي باستمرار؟ وكيف يمكن لهذا الرماد الجالس أمامي ملتفا بملاءة سوداء.. أن يلد كل هذه النيران التي تسكنني؟ يقول مثل: "النار تلد الرماد" وكثيرًا ما تكذب الأمثال! ها هو ذا مسحوق الرماد. يلد كلّ هذا الجمر, كلّ هذه السيول النارية التي أحرقت في داخلي كلّ شيء, كلّ القناعات الجاهزة, كل الأكاذيب التي توارثتها النساء. توصلني أفكاري من جديد إلى ذلك الرجل. وتراودني فكرة حاولت مقاومتها منذ عشرة أيام. فأستفيد من وجود أمي لأقترح عليها مرافقتها صحبة السائق حتى البيت. وهكذا يمكنني أثناء العودة أن أطلب منه التجول بي في المدينة. وأدري أن إمكانية العثور على ذلك الرجل في مدينة كهذه, ضئيلة جداً. ولكن لماذا لا أحاول؟ فأنا لا أخسر شيئًا سوى بعض الوقت. وهو الشيء الوحيد الذي أملك من رتابته, ما يفوق قدرتي على الإنفاق. وهكذا بسرعة, كنت قد ارتديت فستاناً جميلاً. وتزينت تهيؤاً للقاء محتمل. ها أنا في سيارة رسمية. أجلس جوار سائق سلّمته مقود القدر. أشعر براحة, لأنني لم أجهد نفسي في البحث عن مكان لهذا الموعد. مادامت التفاصيل الصغيرة مهمة القدر, فلأترك للقدر إذن حقّ التصرف, أو التسلي ببرنامجي. لن أتدخل هذه المرة إطلاقاً لأختار وجهة السائق, أو أقترح عليه بالتحديد, الطريق الذي سيسلكه ليوصلني إلى قدري. تركض بي السيارة نحو المجهول. السائق الذي يعرفني ويعرف هذه المدينة جيدا, يعجب لأمري. ولا يفهم طلبي العجيب "خذني حيث شئت.. أريد أن أتفرج على المدينة". إنه مجرد جندي متقاعد, تعوّد أن يتلقى الأوامر فينفّذها, وليس مؤهلا لأداء دور القدر. ولذا لا يفهم أن أجرب معه وصفة ذلك الرجل نفسها, عندما طلب من سائق غريب أن يأخذنا حيث شاء, ويمنح القدر فرصة قيادة سيّارتنا. فجأة سألني وقد لفّ بي نصف شوارع المدينة, متوهما أنني أريد أن أتفرج على واجهات المحلات: - ودُرك.. وين نروحوا؟ حاولت أن أستدرجه لاختيار مكان بالتحديد؛ قلت: - والله ماني عارفة يا عمي أحمد.. راني شوية قلقانة إذا عندك بلاصة تحبّها أنت.. اديني ليها. أجاب ظقد فاجأه طلبي: - أنا نحب كل شيء في قسنطينة.. راني ولد البلاد. رحت ألح في حشره: - وواش تحبّ أكثر في قسنطينة؟ أجاب بعد شيء من الصمت: - نحب القناطر.. ما كان حتّى بلاد عندها قناطرها.. أصابني جوابه بشيء من الخيبة. ولكنني احترمت قانون اللعبة, وقلت: - إديني نحوّس في كاش قنطرة تحبّه.. وراحت السيارة من جديد, تسرع بي من جسر وهم إلى آخر, معلقة بين السماء والأودية التي يتدحرج نحو هاويتها أملي الضئيل في العثور على ذلك الرجل. لقد قال أنه لا يحب الجسور. وربما قال إنه لم يعد يحبها. فلماذا جئت أبحث عنه فوقها؟ أتمادياً في نزاهتي مع القدر, كي أثبت له حسن نيتي وثقتي المطلقة به؟ أم لأنني اعتقدت برغم ذلك –أو بسبب ذلك- قد أجده هناك, وأنه يحدث أن نتردد على الأماكن التي لم نعد نحبهاو فقط لنبرر كراهيتنا لها, ونتأكد من أننا على حق؟ وهو تصرف يشبهه تماماً! في الواقع, كنت لا أصدق كراهيته لهذه الجسور. وبرغم ما قاله أحسه مشابهاً لذلك الرسام الذي عرفته في الماضي.. والذي كان مهووساً بها حدّ الجنون. أذكر أنه كان يحبني بقدر حبه لها, ويصرّ على كوني أشبهها كلّما رسمها. وأنا لم أكن أحبها, ولا كنت أشبهها. كنت أحبه, وأشبه صديقه الشاعر لا غير. أو ربما بالعكس, كنت أشبهه هو, وأحب صديقه. أو على الأصح, كنت أشبه نفسي.. وأحبهما معاً. فافترقنا. كان هناك حب زائد في قصتنا. وكان ثمة قدر مضادّ. مات الشاعر ميتة فلسطينية. وتزّوجت تلك الفتاة.. زيجة قسنطينية. واختفى الرسام, وكأنه قرر أن يموت أيضاً على طريقته غيابياً. كان من الممكن أن يعود, تحت أيّ مبرر, فقد كان رجلاً لا يغلق في وجهه باب. ولكنه لم يعد. مضى كما جاء دون ضجيج. وترك لي لوحة معلقة على جدار غرفة الاستقبال. عليها جسر معلق كقصتنا.. بحبال من حديد. قبل هذه اللوحة لم أكن أحب الجسور الحديدية. تلك الشاهقة, كسؤال لا يطاله جواب. والآن أيضاً, وأنا أرى هذا الجسر خارج تلك الألوان الزيتية التي تعودتها, تعاودني كراهية غامضة له.. لم أجد لها يوماً سبباً منطقياً. طلبت من السائق أن يتوقف, عساني أعثر على جواب لهذا الإحساس, أو ربما عثرت على ذلك الرجل هنا وسط عشرات الناس العابرين. يحدث للحياة أن تهدي إليك الشيء الذي تحبه الأكثر, في المكان الذي تكرهه. فلطالما أذهلتني الحياة بمنطقها غير المتوقع. أفتح باب السيارة من الجانب المطل على الجسر. أقترب من سوره الحديديّ, فتفاجئني قسنطينة كما لم أرها يوماً من جسر: هوّة من الأودية الصخرية المخيفة, موغلة في العمق, تزيدها ساعة الغروب وحشة. أتذكر وأنا أرى الناس حولي يسرعون في كلّ الاتجاهات, وكأنهم يخافون الجسور, أو كأنهم يخافون ليل قسنطينة, تلك القصيدة لوولت ويتمان (على جسر بروكلين): "المدّ الصاعد تحتي, وأراك وجهاً لوجه! غيوم من الغرب والشمس ما تزال هناك لنصف ساعة أخرى وأراك وجهاً لوجه حشود من الرجال والنساء يتنكرون في ثيابك العادية, ما أغربكم في عينيّ! يعاودني فجأة إحساسي الدائم بالدوار. وقدماي تكادان لا تحملانني. وأنا أقف مذعورة على علوّ سبعمائة متر, أستعيد رجلاً رحل.. وأنتظر آخر لن يأتي. أسعد لأن السائق غادر السيارة, ووقف ليرافقني حيث لا تثير وقفتي العجيبة فضول المارة, الذين لم يتعودوا رؤية سيارة رسمية تقف وسط الطريق, لتخرج منها امرأة غريبة الأطوار تريد التفرج على جسر! أشعر برغبة في مدّ حديث مع السائق الذي أشعل سيجارة ووقف يتأمل الجسر.. وكأنه يكتشفه. رحت أحدّثه وكأنني أريد أن أبرر جنوني هذا. قلت: - تعرف يا عمي أحمد.. هاذي أول مرة نجي فيها هنا..كلّ ما نوقف قدام قنطرة.. تجيني الدوخة.. القناطر تخوفني. رد بنبرة الأبوة: - ما تخافيش يا بنتي.. المؤمن ما يخاف غير من ربي. واصلت وكأنني أعاتبه على اختياره لهذا المكان: - ما على باليش علاش تحب القناطر.. نقولك الصحّ.. أنا نكرها. أجابني بمنطق البسطاء: - حتى واحد ما يكره بلادو.. واش تكون قسنطينة بلا قناطرها.. إيه لو تنطق هاذ القنطرة يا بنتي.. وصمت, فتركته لصمته. قررت أن لا أجادله: منطق المسنين والبسطاء يجردك من منطقك. من الأفضل ألا تجادلهم في عمر من القناعات. لأنهم في جميع الحالات أصبحوا أكبر من أن يغيروا رأيهم! فجأة.. قال وكأنه تنبه لشيء: - هيا نروحوا.. تنبهت بدوري إلى تقدم الوقت بنا. فأجبته: - صح.. راح يطيح الليل! سبقني كعادته, بينما رحت ألقي نظرة أخيرة على تلك الأودية القاحلة, وكأنني أودعها بعدما تأكد لي الآن تماماً أنني أكره هذا الجسر, وأن فضولي تجاهه قد مات تماماً, كأملي في لقاء ذلك الرجل الذي قضيت أكثر من ساعتين, وأنا أجوب هذه المدينة في البحث عنه دون جدوى. شعور عارم بالخيبة, كان يزيد حزني. وقد خسرت تلك المراهنة الجنونية التي أبرمتها مع القدر. أجئت هنا سابقة أم متأخرة عن الحب, فلم أجد أحداً؟ أم لست أنا التي تقدمت أو تأخرت, بل القدر هو الذي كان دقيقاً هذه المرة في توقيته.. كما هو الموت؟! فجأة, خطفتني من أفكاري طلقات نارية انطلقت على مقربة مني. وهزني دويّها بقوة مباغتة, حتى لكأن رصاصها اخترقني. انتفضت. والتفت مذعورة خلفي. فلم ألمح سوى شابّ, أصبح على عدة أمتار مني, يركض كسهم وسط الناس, ويختفي عند زقاق يتفرع من الجسر. بحثت عن عمي أحمد. فلم أره داخل السيارة. ولا خارجها. تقدمت خطوات نحو الجهة الأخرى. إذ بجسده ممدد على الأرض ودم ينزف من رأسه وصدره. شعرت أنه يكاد يغمى عليّ, أو أنني أريد أن يغمى عليّ, كي أفقد وعيي ولا أرى شيئاً مما يحدث حولي. كانت رقعة الدم تتسع أمامي, وصوتي يضيع مني. تجمع حولي المارة. سألي بعضهم ما الذي حدث. بينما البعض الآخر لم يكن في حاجة إلى سؤال أو تساؤل؛ لقد رأى بنفسه كلّ شيء, أو استنتج ذلك. كنت أستمع إليهم يتحاورون. بعضهم يستغفر الله, عاتباً على دولة يتنقل فيها المسلحون بهذه الحرية. بعضهم يلقي نظرة دون تعليق ويبقى واقفاً للفرجة. أما أنا فأصبت بخرس الذهول. ولم أنطق إلا عندما وصلت أخيراً سيارة الأمن, لينزل منها شرطيان يشقان طريقهما بصفارة. لم أجد ما أقول لهما وهما يسألانني عما حدث, سوى "خذوه إلى المستشفى.. أرجوكم خذوه". راحا يتفحصان حالته. رصاصة في الرأس وأخرى في الصدر. طلبا سيارة إسعاف, برغم كونه "لن يعيش" حسب رأي أحدهما. كان يبدو على سلوكهما توتر واضح. كانا في مقتبل العمر, ويمسكان بمسدسيهما بعصبية, وكأنهما منذ اللحظة التي اكتشفا فيها أنه ليس هنا من أمل في إنقاذه, أصبح همهما أن ينجوا بنفسيهما من تلك الحلقة البشرية التي التفت حولهما, والتي قد يكون بينها قاتل آخر, يحلم باقتناص رأس أي شرطي كان. تأمل أحدهما السيارة, ثم رقمها بإمعان. استنتج بسرعة رتبة صاحبها ووظيفته. فذهب نحو ذلك الجسد الممد أرضاً, وأخذ المفاتيح من تلك اليد التي انغلقت عليها, وكأن عمي أحمد كان يريد أن يفتح السيارة على عجل ويهرب بي من خطر توقعه بحدسه العسكري, أو كأنه أراد أن يموت كأي جندي أثناء تأدية واجبه ممسكاً سلاحه. فجأةً, أصبحت تلك السيارة الرسمية أهم من ذلك الرجل الذي قادها سنوات. والهروب بها أهم من إنقاذ هذا الرجل الممد في بركة دم. لا أدري كم مر من الوقت, قبل أن تحضر سيارة الإسعاف المنتظرة. وقت بدا لي طويلا وغير منطقي. أثناء ذلك كان أحد الشرطيين يقف على مقربة من الجريح شاهراً سلاحه, مطالبا الناس بأن يتفرقوا. بينما كان الثاني يتفقد السيارة ومحتوياتها. ثم ما كادت تصل سيارة إسعاف عسكرية حتى حسم الأمر. فنقل عمي أحمد على عجل في سيارة الإسعاف. بينما تكفل أحد العسكريين بقيادة السيارة والعودة بها إلى البيت.. دوني. جاءني أحدهم بعد ذلك طالباً مني مرافقته إلى المخفر, لأقدم شهادتي عن الحادث بكل ملابساته وتفاصيله. وعبثًا حاولت إقناعهم بالسماح لي بمرافقة السائق في سيارة الإسعاف ولكنهم رفضوا, موضحين أنه ليس ثمة ضرورة لوجودي. سألت "إلى أين تذهبون به؟". فأجابني أحدهم بشيء من العصبية "إلى المستشفى العسكري". فهمت أنه ليس هناك من مجال لأي نقاش أو جدل. كنت أراهم ينقلونه نحو سيارة الإسعاف, يضعونه على ناقلة جرحى ويوشكون أن يمضوا به. انتابني شعور بأنني لن أراه ثانية بعد الآن, وأن ذلك الباب ربما سينغلق عليه إلى الأبد. ركضت نحو السيارة. ارتميت على يده ألثمها, اغرق وجهي ودموعي فيها, وكأنني أنقل إليه شيئا من الحياة. كأنني أتقاسم معه حياتي مادمت لم أتقاسم معه موته, أنا التي جئت به حتى هنا. شعرت بأنني أقبل يد الموت, الموت الذي سيأخذه, والذي ينتظر الآن فقط بأدب, أن أرفع شفتيّ عنه ليسحبه ويمضي به. سمعته يتمتم بكلمات لم أفهمها. وصلني منها شيء شبيه ب"ما عليهش يا بنتي" أو ربما "ما تبكيش يا بنتي.." ولكنني كنت أبكي,فبإمكاني الآن أن أبكي في هذه السيارة القبر.. بعيدا عن الأنظار. استعجلني العسكري الذي كان ينتظر نزولي ليغلق الباب. ولم يعد بإمكاني إلا أن أغادر السيارة, ونظراته الفارغة تلاحقني, ويده التي تركتها تواً, بقيت متدلية تشير سبابتها بالشهادة. تقذفني السيارة أمام باب المخفر. تنتابني حالة لم أعرفها من قبل: مزيج من الحزن والذهول والذعر والغثيان, وأنا أواجه رهطاً من الناس, لم أصادف مثلهم في حياتي؛ أناس بمظهر مخيف, ووجوه مغلقة, ونظرات عدوانية, بعضهم في ثياب عادية, وآخرون ملتحون, يرتدون شعاراتهم داخل زي أفغاني. أحدهم حليق الرأس في بذلة رياضية, ويداه مشدودتان خلف ظهره بسلاسل حديدية. وآخر جالس دون وجه ولا ملامح, وآثار ضرب واضحة عليه. بينما يتنقل العسكريون بلثام أسود, شبيه بجوارب صوفية تخفي رأسهم. فلا يبدو من وجوههم سوى ثلاثة ثقوب يتحدثون ويرون بها, دون أن يعرفوا. أي كابوس هو هذا؟ أستنتج أن هذه القاعة العارية الجدران, المتسخة البلاط, البائسة المظهر, تجمع دون تمييز بين المجرم, والطالب المشبوه, والمواطن الذي جاء لسبب ما, والسارق الذي قبض عليه تواً.. وأنا! أنا التي هنا, لأنني أحب رجلاً وهميًا, وأكره الجسور الحديدية, وأردت التأكد من كراهيتي لها, وإذا بي في قاعة كلّ أثاثها من حديد. يجلس خلف مكاتبها رجال من حديد, يستجوبون رجالاً آخرين, مكبلين بسلاسل حديدية. هذا زمن الحديد إذن. وكان لابد أن أغادر دفتري لأكتشف هذا. بعد لحظات من الوقوف, انتبه شرطي إلى وجودي الشاذ في ذلك المكان. فرافقني إلى مكتب جانبي صغير كي انتظر فيه. سعدت بوحدتي, وباختلائي بنفسي للحظات, والهروب من تلك النظرات الفضولية التي كانت تتفحصني بشيء من العدوانية, التي لم أجد لها من مبرر, سوى أنوثتي أو اختلافي. هذه مدينة ترصد دائما حركاتك, تتربص بفرحك, تؤول حزنك, تحاسبك على اختلافك. ولذا عليك أن تراجع خزانة ثيابك, وتسريحة شعرك, وقاموس كلماتك, وتبدو عادياً, وبائس المظهر قدر الإمكان, كي تضمن حياتك. فهي قد تغفر لك كل شيء, كل شيء عدا اختلافك. وهل الحرية في النهاية سوى حقك في أن تكون مختلفا! ما لم أجد له مبرراً أيضاً, هو طول انتظاري في ذلك المكتب الصغير. وكان أمري لا يعني أحداً, أو كأن الجميع مشغولون عني بأمر أهم. بين حين وآخر, كانت تصلني صرخات شاب, أتوقع انهم يقومون باستجوابه على طريقتهم, وهو ما زاد حزني وشعوري بالعجز والألم. في لحظة ما.. توقعت أنهم ألقوا القبض على القاتل. ولكن كنت أشك في أمر كهذا. فلم يحدث أن ألقوا القبض على قاتل بهذه السرعة. ثم حضر فجأة شرطي, وطلب مني مرافقته. هذه المرة كان ينتظرني في مكتب مؤثث بلياقة أكثر, تتناسب مع رتبة الضابط الجالس خلفه, تعلوه صورة الرئيس الشاذلي بن جديد. نهض الضابط لمصافحتي وطلب مني الجلوس. بادرته بالسؤال: - هل عثرتم على القاتل؟ أجاب وهو يرتب بعض أوراقه: - لا.. نحن نعتمد على شهادتك لمساعدتنا في ذلك. أبتلع ريقي. يواصل: - كلّ التفاصيل تعنينا. حاولي أن تتذكري كلّ شيء. أجيب: - لا.. أنا كنت أنظر نحو الجسر.. عندما سمعت طلقات نارية. وعندما التفت.. رأيت شاباً يركض ويختفي في الزقاق المتفرع عن الجسر. - أتعتقدين أنه كان وحيداً.. أم أن أحداً كان بصحبته؟ أجيب: - أنا لم أر إلا رجلا واحداً يركض. ولا أدري إن كان آخرون في انتظاره, أو في صحبته. - كم تتوقعين أن يكون عمره تقريبا؟ - ربما بين العشرين والخامسة والعشرين.. - أيمكن أن تصفيه لي؟ - لا أعرف كيف أصفه.. أنا لمحته من الخلف. - هل لاحظت أثناء مشواركم أن سيارة أو دراجة نارية تتبعكم؟ - لا أدري, فقد كنت مشغولة بالنظر أمامي. أدري فقط أنه أثناء وقوفنا عند الجسر كان هناك زحمة سيارات, وزحمة مارة, وأن البعض كالعادة, كان يتلفت بفضول وينظر إلينا. - هل أطلتما الوقوف على الجسر؟ - لا أعتقد.. ربما بقينا هناك ما يقارب العشر دقائق لا أكثر. أذكر أن السائق قال لي فجأة "هيا نروحوا" وكأنه تنبه لشيء. ثم اتجه نحو السيارة.. وما كدت ألحق به حتى أطلقوا الرصاص عليه. - هل من عادتك أن تترددي على هذا المكان؟ - لا.. إطلاقاً. - هل أخبرت أحدا بمشوارك هذا؟ - لا - الشغالة مثلا.. أما قلت لها أين أنت ذاهبة؟ - لا.. أخبرتها كالعادة أنني سأغادر البيت لا أكثر. يتوقف قليلاً وهو يقلب ورقة صغيرة أمامه. ثم يسألني: - وأخوك.. هل هو على علم بتنقلاتك؟ أجيبه دهشة: - أخي؟.. ولكنه لا يقطن معي. يجيب: - أعرف ذلك. ثم يواصل: - هل لاحظت في الآونة الأخيرة تغيراً في سلوك السائق, شيئاً من العصبية أو شيئا من القلق الواضح في تصرفاته؟ - لا.. إنه رجل هادئ ومسالم. وكان أثناء مشوارنا الأخير يتحدث إلي بروحه المرحة ذاتها. يواصل تسجيل بعض ملاحظاته على ورقة. ثم ينهض ويصافحني قائلاً: - قد نتصل بك مرة ثانية إذا كان من ضرورة للتدقيق في بعض التفاصيل. ثم يواصل: - لقد علمت أن زوجك موجود في مهمة بالعاصمة. سأرسل له خبراً عن طريق الوزارة.. وأقدم له تقريراً حال عودته. يرافقني نحو الباب, وطلب من عسكري مرافقتي إلى البيت, فأصافحه. وبصوت لم يعد صوتي أقول "شكرا" وأغادر عالم الحديد.. إلى عالم الذهول والفجيعة. * * * * مخيفة هي الكتابة دائماً. لأنها تأخذ لنا موعداً مع كل الأشياء التي نخاف أن نواجهها أو نتعمق في فهمها. يوم بدأت هذا الدفتر ما كانت نيتي أن أفلسف الأمور حولي. ولذا أكتشف اليوم, أن موت هذا الرجل أكبر مني, يتجاوز حدود فهمي, يتجاوز منطقي, لأنه حدث خارج دفتري. أو بالأحرى على هامش صفحتي. في ذلك الخط الأحمر الدقيق الذي يفصل بين الحياة والكلمات. العجيب والمؤلم في موته, أنه مات بسبب بطل وهميّ وكائن حبري, ولم يحدث للموت أن كان في متناول الكلمات, في متناول الوهم إلى هذا الحد! ذلك الرجل الذي يكره الجسور, ويكره الأسئلة. أوصلني حبه إلى أسئلة لا جواب لها. لماذا مات ذلك الرجل؟ لماذا اليوم؟ لماذا الآن؟ لماذا هناك بالتحديد؟ لماذا هو بالذات؟ كنت أستدرجه ليختار عنوانا لقدري, فأختار أنا عنوانا لقدره. قلت له خذني إلى المكان الذي تحبه الأكثر في هذه المدينة, فسرق الموت سؤالي, وأوصله إلى جوابه الأخير. من منّا المتهم الأول الآن في جريمة كهذه؟ القدر الذي سلمته مقود السيارة وأبرمت معه معاهدة ثقة.. فخانني؟ أم أنا التي رحت أطارد رجلاً وهميّاً, خارج حدود الورق, وإذا بي أحول لعبة الكتابة إلى لعبة موت؟ أم ذلك الرجل الوهمي, الذي أقنعني بأن أثق بالقدر, ثم تخلى عنّي, كي يلقنني درساً في كتابة القصص؟ كل الأسئلة أصبحت تختصر عندي في سؤال واحد: موت هذا الرجل جريمة قدر..؟ أم جريمة أدب؟ وبالتالي إلى أية درجة أنا مسؤولة عن موته؟ ولكن الأمور بالنسبة إلى زوجي, الذي عاد على عجل في صباح اليوم التالي, لا يمكن أن تكون مبسطة إلى هذا الحد. ليس فقط لأنه يجهل القصة التي أكتبها وأعيشها, والتي أوصلتني إلى ذلك الجسر. ولكن لأنه قبل كلّ شيء رجل عسكري. والأسئلة التي تعنيه أسئلة محض بوليسية, لا مكان فيها للقدر, ولا للأدب. وها هي تنهال عليّ مشابهة لتلك التي سبق أن أجبت عنها البارحة. ولكن بنبرة عصبية مختلفة, وبإضافات جديدة هذه المرة. - لماذا ذهبت إلى هناك؟ أجننت لتوقفي سيارة رسمية وسط الطريق وتنزلي لتتفرجي على جسر.. وتتبادلي الحديث مع السائق على مرأى من الناس؟ - أردت أن أرى الجسر عن قرب لا أكثر.. لأنني أراه دائما على تلك اللوحة المعلقة في الصالون.. تلك التي أهداها إلينا الرسام خالد بن طوبال يوم زواجنا. وصادف أن مررت من هناك, فقلت لا بأس أن أنزل وأتفرج على الجسر, ما دمت أتجول وما دام أمامي بعض الوقت. - تتجولين؟ أهذه مدينة للفسحة؟ أو هذا زمن للتجوال؟ البلد يعيش حالة حصار معلنة على كل التراب الوطني, وأنت تتجولين؟ ألا تقرأين الجرائد؟ ألا تتحدثين إلى الناس؟ كل يوم يقودون رجال الشرطة, يذبحونهم كالنعاج ويلقون بهم من الجسور.. - ولكن لا أفهم ما ذنب عمي أحمد في كل هذا؟ - إنه يقود سيارة عسكرية.. أي أنه عسكري! - ولكنه لم يكن يرتدي زياً عسكرياً.. - لا يهم.. كان في خدمة الدولة.. وهذه تهمة كافية. إلا إذا توقعوا أنه أنا. وفي هذه الحالة كان لهم أكثر من سبب لقتله. يصمت قليلاً ثم يطرح سؤاله الأهمّ: -أين كنت تجلسين؟ أُتََمَتِمُ: -جواره كما أفعل أحياناً.. [في الواقع كما أفعل دائماً]. نغرق معا في صمت فاضح. تذهب أفكارنا معا إلى الشيء نفسه. في البدء, كان زوجي يحتجّ على جلوسي جوار السائق. ولكنني كنت, مع عمّي أحمد بالذات, عاجزة عن الجلوس خلفه. فقد كان يعيش معنا معظم الوقت كفرد من العائلة. وكان في حضوره شيء من الوفاء والطيبة التي تجعلني أخجل من إعادته خارج البيت, إلى مرتبة سائق وخادم يحمل أشيائي لا أكثر, هو الذي كان يوماً يحمل سلاحاً. كنت أحترم ذاكرته الوطنية. أحترم يديه, وشعيرات رأسه الرمادية. ولم يكن يعنيني أن تكون قامته الفارعة توحي بأنه أصغر من عمره, حتى يبدو أحياناً قريباً في مظهره من زوجي. كما لم تعنني يوماً نظرات التعجب التي كانت تقابلني بها زوجات الضبّاط, عندما يفاجئنني جالسة إلى جواره. في النهاية, خلافي مع زوجي قد يتلخص في هذا المقعد. فقد كان طموحه الجلوس خلف سائق في سيارة رسمية, وطموحي كان الجلوس جوار رجل في سيارة. كان بين أحلامنا مسافة مقعد, لا أكثر. ولكن كانت المسافة أكثر شساعة مّما توقّعت. فأنا لم أكن أعرف قبل اليوم أن اختيارنا الجلوس في مقعد بالذات دون غيره قد يفضح اقتناعاتنا وطموحاتنا إلى هذا الحد, ولا أنه قد يتسبب في قتل رجل بريء, لأنه دون أن يغيّر مكانه, غيّر صفته ورتبته. وها أنا إذن, أمام شرح آخر لموته, شرح لا يبرئني أيضاً من دمه, ما دمت بجلوسي جواره, حولته في نظر الآخرين من سائق إلى ضابط, وجعلته بالتالي هدفاً مفضلاً لرصاصهم. أفكّر فجأة في غرابة القدر الذي أبدع هذه المرة في كتابة نهاية لحياة هذا الرجل, الذي عاش جندياً بسيطاً.. خمسين سنة. ثم مات برتبة ضابط كبير. لقد بلغ أحلامه في اللحظة الأخيرة من عمره. ومات بتهمة أحلامه. وربما سعيداً بها. ألم يمت ضابطاً في المكان الذي يحبه الأكثر في قسنطينة؟ الجسور! المكان نفسه الذي من الأرجح, أن يكون قد حارب فيه منذ ثلاثين سنة, وجازف فيه بحياته أكثر من مرة. ولكن الموت لم يأخذه يومها, لأنه لم يرده جندياً متنكراً في برنس المجاهدين, أو شهيداً في عملية فدائية. تلك ميتة عادية. أرداه بعد ثلاثين سنة, جندياً يجلس في مقعد ضابط جزائريّ.. ليموت برصاص جزائريّ. إن ميتة كهذه, وحدها ميتة استثنائية! تذهب بي الأفكار بعيداً. بين السخرية والألم, أتوقف في محطات للنّدم. لقد قتلت ذلك الرجل, لا بجنوني فقط, وإنما بطبيعتي أيضاً. وتواضعي المبالغ فيه الذي يجعلني أصر على الجلوس جواره, لأهدي إليه وهم التساوي بي. في الواقع, التواضع كلمة لا تناسبني تماماً. أن تتواضع يعني أن تعتقد أنك مهم لسبب أو لآخر, ثم تقوم بجهد التنازل والتساوي لبعض الوقت بالآخرين, دون أن تنسى تماما أنك أهم منهم. هذا الشعور لم أعرفه يوماً. لقد كنت دائما امرأة لفرط بساطتها, يعتقد كل البسطاء, وكل الفاشلين حولها أنها منهم. ولم يكن من أمل في تغيري: لقد ولدت اقتناعاتي معي. أنا أحب هؤلاء الناس, أتعلم منهم أكثر مما أتعلم من غيرهم, أرتاح لهم أكثر مما أرتاح لغيرهم, لأن العلاقات معهم بسيطة, وأكاد أقول جميلة. بينما العلاقات مع الناس المهمين – أو الذين يبدون كذلك – هي علاقات متعبة ومعقدة.. أي علاقات فاشلة! ولذا كانت لي مع ذلك الرجل علاقة, أكتشف الآن جمالية تلقائيتها. * * * موت عمي أحمد قلب حياتنا رأساً على عقب. فأمام اقتناع زوجي بأنه هو الذي كان معنياً بذلك الاغتيال, قرر أن يأخذ تدابير أمنية جديدة. أولها الاستغناء عن سيارته الرسمية. والتنقل من الآن فصاعدا في سيارة عادية يغيّرها بين الحين والآخر. ثانياً إحضار سائق جديد.. لن يرافقني إلا للمشاوير الضرورية, على أن أجلس خلفه هذه المرة, ولا أفتح معه أي حديث. أما تنقلاتي فستقتصر هذا الأسبوع على زيارة بيت عمي أحمد, لتقديم التعازي لأهله. بينما تكفّل زوجي بإرسال خروف. وأتوقع أن يكون زراهم هذا الصباح. أما مشواري الثاني, فسيكون لزيارة أمي وتوديعها, قبل ذهابها إلى الحج, للمرة الثالثة.. أو الرابعة.. لا أدري بالتحديد. فلا أحد يدري هنا عدد حجات الآخر. مذ شاعت ظاهرة المزايدة في كلّ ما له علاقة بمظاهر التقوى. فهل من عجب أن أصاب هذا الأسبوع بإحباط, شبيه بالانهيار العصبيّ, وأنا أتنقل من بيت بائس يعلو منه صوت القران, وعويل نسوة مرتديات السواد, مات فيه المعيل الوحيد لسبعة أشخاص, إلى بيتٍ تتنقل فيه أمي بثوبها وشالها الأبيض, وحولها نسوة من كل الأعمار, لبسن كلّ ما في خزانتهن من صيغة وأثواب أنيقة, وجئن يودّعنها للمرة العاشرة. أو بالأحرى جئن ليقنعنها للمرة العاشرة بأنهن لا يقللن عنها ثراء, وبإمكانهن الذهاب إلى الحج أكثر من مرة لو شئن. وطبعاً سيكون بينهن بعض نساء الضباط اللائي جئن مجاملة لي. واللائي سيطاردنني بالأسئلة عن "الحادث" تحسباً لما قد ينتظر أزواجهن من مفاجآت. ولكنني كنت منذ عدّة أيام, قد فقدت رغبتي في الكلام, وكان حضورهن الباذخ استفزازاً لحزني كن نساء الضجر, والبيوت الفائقة الترتيب, والأطباق الفائقة التعقيد, والكلمات الكاذبة التهذيب, وغرف النوم الفاخرة البرودة, والأجساد التي تخفي تحت أثواب باهضة الثمن.. كل ما لم يشعله رجل. وكنت أنثى القلق, أنثى الورق الأبيض, والأسرة غير المرتبة, والأحلام التي تنضج على نار خافتة, وفوضى الحواس لحظة الخلق. أنثى عباءتها كلمات ضيقة, تلتصق بالجسد, وجمل قصيرة, لا تغطي سوى ركبتي الأسئلة. منذ الصغر كنت فتاة نحيلة بأسئلة كبيرة. وكانت النساء حولي ممتلئات بأجوبة فضفاضة. ومازلن دجاجات, ينمن باكراً. يقُقْنَ كثيرًا, ويقتتن بفتات الرجولة, وبقايا وجبات الحب التي تقدم إليهن كيفما اتفق. ومازلت أنثى الصمت, وأنثى الأرق. فمن أين آتي بالكلمات, كي أتحدث إليهن عن حزني؟ يومها, لم ينقذني سوى مرور ناصر مصادفة بالبيت. فتحججت به. لأترك مجلس النساء وأخلو به. هوذا ناصر أخيراً.. لا أذكر كم مر من الزمن على آخر لقاء لنا. فلم يحدث خلال سنوات زواجي الخمس أن زارني أكثر من مرة في العام. أما بقية لقاءاتنا, فكانت تتم هنا في بيتنا, خلال الأعياد أو المناسبات العائلية.. أو مصادفة مثل اليوم. وكأننا لا نسكن المدينة نفسها. لقاؤنا الأخير, كان في عيد الفطر الماضي. بدا لي يومها على غير عادته قلقاً وصامتاً. عادة, يقبلني بشوق. نتبادل بعض أخبارنا. ونضحك أحيانا ونحن نستعيد بعض ذكرياتنا المشتركة. ولكنني احترمت وقتها صمته, ومضيت. ناصر يصغرني بثلاث سنوات. ولكنه كان دائما توأم حزني وفرحي, وتوأم رفضي أيضاً. ثم انكسر شيء بيننا فجأة, منذ زواجي. حل محله شيء من العتاب الصامت, الذي فسرته في البدء بالغيرة. فقد كان ناصر متعلقاً بي. كنت كل عائلته, كل اقتناعاته, كل مفخرته. هو الذي فشل في الدراسة وتحول تاجراً في عمر ما زال فيه الآخرون يواصلون دراستهم. وكان يرفض أن يأتي رجل غريب ويسرق منه كل شيء كان ينفرد بامتلاكه. حتى إنه قلما لفظ اسم زوجي أمامي. وكأنه لا يعترف بوجوده. أذكر منذ سنتين, حاولت أن أناقشه في هذا الموضوع. قلت له "لقد مرّ على زواجي ثلاث سنوات.. وحان لك أن تتقبل هذا الأمر.. إنه مكتوب". ولكنه فاجأني متذمراً: -مكتوب؟ أن ينهبوا البلاد.. أن يفرغوا أرصدتنا.. ويسطوا على أحلامنا.. ويستعرضوا ثرواتهم على مرأى من بؤسنا. ربما كان هذا مكتوباً.. أما أن يتزوج هؤلاء السفلة بناتنا.. ويمرغوا أسماء شهدائنا في المزابل.. فليس هذا مكتوباً.. أنت التي كتبته وحدك! ناصر عمره سبع وعشرون سنة. يصغرني بثلاث سنوات, ويكبرني بقضية. لقد جاء العالم هكذا حاملا قضية معه, كما نحمل أسماءً لا نختارها, إذا بنا نشبهها في النهاية. ربما لأن أبي الذي كان مأخوذا بشخصية عبد الناصر, أثناء حرب التحرير, أراد أن يعطيه اسما مطابقا لأحلامه القومية. إذا به دون أن يدري يعطيه اسمين: اسمه كواحد من كبار شهداء الجزائر, ولقباً لأكبر زعيم عربيّ. ناصر تقاسم كل شيء مع الوطن, يتمه.. واسمه الذي لم يعد اسمه. ناصر عبد المولى, كان الطفل المدلل لذاكرة الوطن. ولكن ليس بالضرورة طفل الوطن المدلل. ولد باسم أكبر منه, وضع على كتفيه برنساً للوجاهة. وكانت تلك مصيبته. ليس سهلاً أن تكون ابن رمز وطني. دون أن تشعر بالبرد تحت ذلك المعطف الفاخر السميك. فماذا تراه كان يلبس, تحت ذلك المعطف. ليتدفأ في زمن الخيبات؟ ماذا تراه كان يخبئ تحت برنس الصمت؟ أقبله بشوق. أبادره كعادتي بلهجة قسنطينية, مسروقة كلماتها من قاموس الأمومة: -واش راك.. يا اميمة توحشتك..؟ يجيب: - مليح.. يعيّشك. ويجلس في جبته البيضاء مقابلا لي. استنتج أنه عائد من الصلاة, أو ذاهب إليها. فلم يحدث أن التقيت به, إلا وكان بين صلاتين.. أو بين قضيّتين. كما الآن, عندما أقول له, وكأنني أبحث عن موضوع أبادره به: - لقد جئت لأودع "ما".. يبدو أنه لن تشبع من الحج.. فيجيبني: -لقد قلت لها إن أجرها سيكون أعظم لو تصدقت بثمن حجتها إلى فقراء العراق ولكنها لم تصدقني... فأصمت ولا أدري كيف أواصل معه الحديث. ناصر لم يشف بعد من حرب الخليج. عند بدء الاجتياح العراقيّ كان يعيش مشتتاً.. مضطرباً. ينام وهو من أنصار صدام حسين, ويستيقظ وهو يدافع عن الكويت. ثم ما كادت الأحداث تأخذ منحى المواجهة العسكرية والتحالف العالمي ضد العراق, حتى انحاز نهائيا إلى العراق مأخوذا ب"أم المعارك". كان مثل الجميع يراهن على المستحيل, ويحلم بمعركة كبرى.. نحررّ بها فلسطين! ولكنه عند سقوط أول صواريخ عراقية على إسرائيل ووقوعها على أراض قاحلة, طلبني ليلاً ليقول لي "أهذا هو السكود الذي كان يهدد به صدام العالم.. إنه ليس أكثر من "تحميلة" وضعتها إسرائيل في مؤخرتها..!". ضحكت.. ولم أتوقع أن يكون لهذه الحرب كلّ ذلك التأثير في ناصر. كانت تلك الفترة هي الوحيدة التي كان خلالها ناصر يتردد عليّ, ربما ليجد أحداً ينقل إليه تذمره وسخطه لا أكثر. فقد كان يدري, أن بإمكانه أن ينقل إلي أية عدوى من هذا القبيل. كذلك اليوم الذي زارني فيه وفاجأني جالسة أمام أوراقي. وكنّا في عزّ تلك الفجائع, وما تلاها من إهانات. فراح يؤنبني وكأنني ارتكبت ذنباً في حق أحد. مردداً: - لا أفهم من أين لك القدرة على مواصلة الكتابة وكأن شيئاً لم يحدث. لا هذه الأرض التي تتحرك تحت قدميك.. ولا هذا لدمار الذي ينتظر أمة بكاملها منعاك من الكتابة.. توقفي.. تأملي الخراب حولك. لا جدوى ممّا تكتبين.. قلت كمن يعتذر: - ولكنني كاتبة.. صاح بي: - ولأنك كاتبة عليك أن تصمتي.. أو تنتحري. لقد تحولنا في بضعة أسابيع إلى من أمة كانت تملك ترسانة نووية.. إلى أمة لم يتركوا لها سوى السكاكين.. وأنت تكتبين. وتحولنا من أمة تملك أكبر احتياطي مالي في العاغلم, إلى قبائل متسولة في المحافل الدولية.. وأنت تكتبين. هؤلاء الذين تكتبين من أجلهم.. إنهم ينتظرون أن يتصدق عليهم الناس بالرغيف وبالأدوية.. ولا يملكون ثمن كتاب. أما الآخرون فماتوا. حتى الأحياء منهم ماتوا.. فاصمتي حزناً عليهم..! لا أظن أن ناصر كان يتوقع, أنه بهذه الكلمات التي ربما غيّر رأيه فيها بعد ذلك, قد غير مساري في الكتابة, وأرغمني على الصمت سنتين. ... سنتين كاملتين, تعلمت فيهما أن أحتقر كلّ أولئك الكتاب, الذين في الجرائد والمجلات واصلوا الحياة دون خجل, أمام جثمان العروبة. كنت أرى القنوات الأمريكية, تتسابق لنقل مشاهد "حية" عن موت جيش عربي يمشي رجاله جياعا في الصحارى. يسقطون على مدى عشرات الكيلومترات كالذباب في خنادق الذل, مرشوشين بقنابل الموت العبثيّ, دون أن يدروا لماذا يحدث لهم هذا. وأرى قوافل البائسين. هاربة بالشاحنات من بلد عربي إلى آخر. تاركة كلّ شيء خلفها, بعد عمر من الشقاء.. دون أن تفهم لماذا. وأرى الكويتييّن يرقصون في الشوارع حاملين الأعلام الأمريكية. مقبّلين صور بوش, مهدين الجنرال شوارزكوف حفنة من تراب الكويت. ولا أفهم كيف وصلنا إلى كلّ هذا. وحده رجل غير مكترث بنا, لم يفقد قريباً في أي حرب من الحروب التي ارتجلها, ولا فقد في زمن المجاعة, ولو شيئاً من وزنه, كان يظهر على الشاشات, يمارس السباحة على مرأى من غرقنا. واعداً إيانا بمزيد من الانتصارات. خلال تلك الفترة.. لم تفارقني فكرة الانتحار. ولم يمنعني من تحقيقها سوى فجيعة أمّي بموتي. في الواقع كنت أبحث لي عن موت "استعراضيّ" كبير لا يشبه في شيء بندقية الصيد المتواضعة التي أطلق بها خليل حاوي, رصاصة على جبينه في 7 حزيران 1982 احتجاجا على اجتياح إسرائيل للبنان, على مرأى من كل الأخوان والجيران العرب, بعد أن قال لأصدقائه "أين هذه الأمة؟ من العار أن أقول أنا عربي أمام هذا التفرج المخزي". كنت أريد لي انتحارا على قدر فجيعتي, شبيها بانتحار الكاتب الياباني مشيما, الذي بعد أن سلم الجزء الرابع والأخير من روايته الرباعية, إلى المطبعة. توجه ذات صباح أحد, لتنفيذ الفصل الأخير من حياته كما خطط له إعلاميا, بعد أن قرر الانتحار, احتجاجا على خروج اليابان مذلولة من الحرب العالمية أمام أمريكا, وضياع شخصيتها القومية أمام الغزو الغربي. الجميل أنه استعد لموته, بأخذ دروس خاصة بالمصارعة والفروسية, والكمال الجسماني. ما مكنه من أخذ قائد القوات اليابانية كرهينة, والتوجه بخطاب حماسي إلى ألف جندي ياباني, كانوا مجتمعين لمناسبة وطنية. وعندما لم يترك خطابه أثرا في ذلك الجيش المهزوم, عاد ميشيما إلى غرفة قائد القوات. وارتدى اللباس التقليدي الياباني. عاقدا أربطته وأزراره برباطة جأش ملحوظة. ثم دعا المصورين ليأخذوا له صورا, رفقة جيشه الصغير, المكون من مائة شاب, أعدهم للموت دفاعا عن عظمة اليابان. ووقف ممسكا بسيفه السامورائي المحظور, لينتحر مباشرة أما عدسات المصورين, هو ومساعده, وفقا لطريقة الهاراكيري الرهيبة في الانتحار, الواحد تلو الاخر. سلاما ميشيما. أينما كنت أيها الصديق, أقبل جبين رأسك المفصول عن جسدك. والملقى منذ نوفمبر 1970 عند أقدام الوطن, رفضا أبديا لذل الانحناء لأمريكا. ما زلت اتساءل: أكنا وقتها متفائلين أم سذجا كي ننحاز إلى أمة متمادية في هزيمتها وعنادها, كي تنجز بتفوق كل ذلك الاخفاق! في تلك الفترة أصبح ناصر ضرورة يومية, لبقائي على قيد العروبة, مزايدا علي في كل شيء, رافضا أن أشتم أمامه نظاما عربيا بالتحديد. فإما أن أشتمها واحدا.. واحدا.. [لأسباب يسردها علي مطولة مفصلة.. ومقنعة] أو أصمت. ففي شتم نظام عربي دون آخر بالنسبة إليه, ما يفوق جريمة السكوت عنه. أذكر كان يمر بي أحيانا؛ يقضي برفقتي بعض الوقت, ثم يمضي قائلا "كان الله في عون هذه الأمة, نصف حكامها عملاء, والنصف الآخر مجانين!". ثم فجأة تغير ناصر. لم يعد يحدثني عن الستة والعشرين مليارا التي تبخرت من خزينة الدولة الجزائرية, ولا عن أصدقائه, الذين انضموا إلى لوائح آلاف الطلبة والشباب القسنطينيين, الجاهزين للدفاع عن العراق, والاستشهاد تحت علمها, الذي اضيف إليه للمناسبة "الله أكبر", وهو ما جعل بعض الساخرين يقترح أن يضاف إلى العلم الجزائري شعار "الله غالب" أي لا نستطيع شيئا من أجلكم... ولا عن تلك الإشاعات التي كان يصدقها الجميع, والتي كانت تقول إن إسرائيل حصلت على صاروخ يطول الجزائر, وهي تستعد لضرب قسنطينة. وهو ما جعل الناس يعيشون لمدة شهر, على أهبة حرب, كأنهم يتمنون حدوثها لمتعة الجهاد.. أو لولعٍ بالاستشهاد. لا أدري.. أهو الذي فقد شهيته للكلام, أم أنا التي فقدت حماسي لكلّ القضايا, ودخلت في حالة ذهول من أمري. بين خيباته الوطنية, وإفلاس أحلامه القومية, غسل يديه من العروبة, أو على الأصح, توضأ ليجد قضيته الجديدة في الأصولية. وأنا التي عشت دائما متأخرة عنه بقضية, لم أفهم ما الذي كان يحدث له بالتحديد. ولماذا هو بين لقاء وآخر, يصبح بعيدا, يصبح غريبا عني إلى هذا الحد. حتى إنني لم أعد أجرؤ على أن أتبادل معه ضحكة أو نكتة كعادتي. لم أعد أجرؤ حتى على مخالفة رأيه, خشية أن يجادلني ويناقشني بمنطق ليس لي من جواب عليه. أحاول استدراجه للحديث أقول: - لقد أنقذتني بقدومك.. فأنا لا صبر لي على هذا الرهط من النساء. يجيب: - لقد اخترت أن تدخلي هذا العالم.. وعليك الآن أن تتقبليه. أشعر أنني على وشك أن أنفجر في وجهه. ولكنني أهدئ نفسي, فأقول بصوت مؤثر, وكأنني أستجدي منه لطفا: -ناصر.. أنت تدري تماما أن هذا الجو ليس جوي. ولن نعود إلى الحديث في هذا الموضوع. أنا متعبة, ومرهقة. لقد مات عمي أحمد منذ ثلاثة أيام على مقربة مني. ما حدث له أمر مريع.. شيء لا يصدق! أتوقع منه كلمة مواساة, أو كلمة يترحم بها على روحه. ولكنه يصمت. ولا أدري أمن تأثره, أم لأن الأمر لا يعنيه, أم..؟ تذهب أفكاري بعيدا. وفي لحظة أتصور الاحتمالات الأكثر جنونا. وصوت ذلك الضابط يعود فجأة ليسألني "هل أخوك على علم بتنقلاتك؟" فأجيبه "لا.. إنه لا يسكن معي" فيرد "أنا أعرف ذلك". ...لولا أن صوت ناصر يأتي بعد صمت طويل لينقذني من سكتة قلبية وهو يقول: - رحمه الله.. كان رجلا طيبا. أكاد أشكره. أرتمي فجأة عليه. أقبله وأجهش بالبكاء. فلا يملك إلا أن يحتضنني. دموعي تسيل لتبلل لحيته التي تلتصق بخدي, وتعطيني إحساسا غريبا. أشعر كأنه أبي.. هو الذي كان دائما ابني. يسألني وهو يضمني إليه. - واش بيك حياة..؟ لا أجيب. أتمتع بضمته لي, بحنانه المفاجئ. أشعر فجأة؛ بأنني كنت في حاجة إلى حنان دون أن أدري, وأنه منذ سنوات لم يحدث لأحد أن ضمني بحنان, فقط بحنان, دون شهوة ولا رغبة. أقول له وسط دموعي: - ناصر.. عاملني بحنان.. هل يجوز الحنان في شريعتك؟ أنت كل ما أملك في هذه الدنيا. إذا شئت لا تكن معي. ولكن لا تكن ضدي. هذا يؤلمني كثيرا. أنت الذي تضع جثمان أبي دائما بيننا.. وتزايد على الجميع في رفع اسم الشهداء.. لم يكن أبي يريد لنا قدرا كهذا.. لا أريد أن يأتي يوم نصبح فيه أعداء, فقط لأننا لا نفكر بالطريقة نفسها. من منا كان يبكي لحظتها؟ لا أدري. أدري فقط أن بعض الضحكات كانت تأتيني من الغرفة الأخرى, حيث تتسامر نساء ينتظرهن عند الباب سائق لم يمت بعد, وأنني قررت أن أغادر البيت دون أن أودعهن. لم أعد أذكر أي حدث بالتحديد كان سببا لانهياري, بعد ذلك, وأوصلني حدّ فقدان شهية الحياة. لا شيء كان يغريني, ولا أحد كانت تعنيه حياتي. أمي كانت مشغولة عني بحجتها. زوجي مشغول عني بمسؤولياته. وأخي بقضيته, والبلد بمواجهاته. وعندما أردت أن أجد لنفسي رجلا وهميا, أطلقوا الرصاص على أوهامي. هذه مدينة, لا تكتفي بقتلك يوما بعد آخر, بل تقتل أيضا أحلامك, وتبعث بك إلى مخفر, لتدلي بشهادتك في جريمة أوصلتك إليها الكتابة. زوجي الذي لم يكن له من وقت, ليحاول فهمي, ولا كان يدري ماذا يجب أن يفعل بي, هو يراني أنغلق على نفسي كمحار, قرر أن يبعث بي إلى العاصمة لأرتاح بعض الوقت على شاطئ البحر, حتى مرور تلك الزوبعة. وكانت تلك أجمل فكرة خطرت في ذهنه منذ زمن بعيد. وهدية القدر التي.. لم أتوقعها. * * * طبعًا قلما تأتي تلك الأفراح التي ننتظرها في محطة. وقلما يجيء، أولئك الذين يضربون لنا موعدًا.فيتأخر بنا أو بهم القدر. ولذا، أصبحت أعيش دون رزنامة مواعيد، كي أوفر على نفسي كثيرًا من الفرح المؤجل. مذ قررت أنه ليس هناك من حبيب يستحق الانتظار، أصبح الحب مرابطًا عند بابي، بل أصبح بابًا ينفتح تلقائيًا حال اقترابي منه . وهكذا تعودت أن أتسلّى بهذا المنطق المعاكس للحب. وكنت جئت إلى هذه المدينة دون مشاريع، ودون حقائب تقريبًا. وضعت في حقيبة يدي ثيابًا قليلة،اخترتها دون اهتمام خاص لأقنع نفسي أن لا شيء كان ينتظرني هناك...عدا البحر. البحر الذي يملك حقّ النّظر إليّ في ثياب خفيفة، دون أن يناقشه أحد في ذلك .ولذا جئته بأخف ما أملك،وبتواطؤ صامت ،فانا لا أدري إن كنت جئت حقًا من أجله. عندما نسافر، نهرب دائمًا من شيء نعرفه. ولكن نحن لاندري بالضرورة ،ماالّذي جئنا نبحث عنه. أترك حقيبتي ملقاة على سرير شاسع، لن يشغله سواي. وأذهب لاكتشاف البيت الذي سأقضي فيه أسبوعًا أو اسبوعين. في الواقع، اذهب لاكتشاف مزاج الأمكنه، وماتبثّه روحها من ذبذبات، أستشعرها منذ اللّحظة الأولى. أحببت هذا البيت : هندسته المعماريّة تعجبني، وحديقته الخلفيّة ، حيث تتناثر بعض أشجار البرتقال واللّيمون, تغريني بالجلوس على مقعد حجري, تظللّه ياسمينة مثقلة. فأجلس، وأستسلم للحظة حلم. البيوت أيضًا كالناس.هنالك ماتحبه من اللّحظة الأولى. وهنالك مالاتحبه. ولو عاشرته وسكنته سنوات. ثمّة بيوت تفتح لك قلبها.. وهي تفتح لك الباب. وأخرى معتمة، مغلقة على أسرارها، ستبقى غريبًا عنها، وإن كنت صاحبها. هذا البيت يشبهني . نوافذه لاتطلّ على أحد. أثاثه ليس مختارًا بنيّة أن يبهر أحدًا. وليس له من سرٍ يخفيه على أحد. كلّ شيء فيه أبيض وشاسع .لاتحده سوى خضرة الأشجار أوزرقة البحر و السماء . بيت لايغري سوى بالحب والكسل، وربما بالكتابة. أتساءل وأنا أتأمله، من ترى سكن هذا البيت. ومن مرّ به قبلي، ليؤثثه ويعتني بحديقته إلى هذا الحدّ..خلال أكثر من ربع قرن؟ فمن الواضح أنّه بيت يعود إلى أيّام الاحتلال الفرنسي، يوم كان كبار الاقطاعيّين الفرنسيّين، يعمرون فيلّيات فخمة على الشواطئ الجزائريًة، غالبًا ماتكون غير بعيدة عن السهول والأراضي الزراعيّة، الّتي كانوا يمتلكونها، وحيث ياتون للاصطياف. بعد الاستقلال، حجزت الدولة الأملاك الشاغرة التي تركها المعمرون الفرنسيون لتكون مقرّاً صيفيّاً لكبار الضباط والمسؤولين الذين أصبح لهم وجود شرعيّ ودائم على موريتي وسيدي فرج ونادي الصنوبر. ومن الأرجح أن تكون هذه الفيلا هي إحدى هذه الأملاك التي يتناوب عليها الضبّاط كل صيف، قبل أن يأتي من يحجزها نهائيّاً، مستندًا إلى نجومه الكثيرة ، أو إلى أكتافه العريضة. وسيشتريها حسب قانون جديد، بدينار مزيّ مثير للعجب. متى حصل زوجي على هذه الفيلاّ .. وكيف؟ أسئلة لا يعنيني الجواب عنها ، ولكنّها تقودني إلى التفكير فيه. فأتذكر أنني لم أطلبه هاتفيًا لأطمئن إلى سلامتنا، كما طلب مني أن أفعل حال وصولنا . في الواقع، كان اسهل وأكثر راحة لنا أن نسافر، أنا وفريدة، بالطّائرة. ولكن زوجي أصرّ ان يرافقنا السائق بالسيّارة لخدمتنا. وحراسة هذا البيت الكبير، الذي لايمكن أن نبقى فيه بمفردنا، وذلك بانتظار أن يلحق بنا بعض الأهل .. في انتظار ذلك أمامي عدّة أيام للّراحة، لا أدري تمامًا كيف أنفقها، والتي أبدأها بأخذ حمام دافئ، واللّجوء إلى النوم احتفالاً بحريّتي. رحت أستعجل النوم. أحاول أن أنام دون أن اقع في فح الأحلام. ثمّة غرف جميلة إلى حد الحزن، تعاقبك أسرّتها بالحلم! وبرغم ذلك، في الصّباح، لم أنج من جسدي. كنت أستيقظ وتستيقظ رغبة داخلي . تلفّني رائحة شهوتي فأبقى للحظات، مبعثرة تحت شرشف النوم النسائي الكسول. يستبقيني إحساس بمتعة مباغته، لم أسع إليها . جاءني بها البحر على سيريري..ليتحرش بي. على غير عادتي.. أستيقظ باكرًا هذا الصباح. وكأنّني أريد أن استفيد من كل لحظة حريّة قد تسرق مني فجأة، لأيّ سببٍ كان. يفاجئني جوع صباحيّ لايقاوم، وكأنّ شهيتي للحياة قد تضاعفت هنا، فابعث بالسّائق لإحضار لوازم الفطور، وأبقى لأتفرج على البحر. رائحته بعد ليلة كاملة من المدّ والجزر تزحف نحوي متوحّشة تستفزّ حواسّي بشهيّة غامضة للحب. أتجاهل اعترافه الفاضح بليلة حب قضاها على مقربة مني، منشغلاً بترويض الأمواج، بينما كنت أنا منشغلة عنه بترويض حواسّي والهروب بنفسي من تلك الهواجس التي كانت تطاردني وتعكر مزاج نومي. البارحة نمت نومًا عميقًا، كما لم أنم منذ أيام . شعرت بمعنى السكينة، وكأنني تركت كل شيء خلفي، وجئت لألقي بنفسي هنا، على سرير شاسع، لاذاكرة له. والآن لارغبة لي سوى في تناول فطوري، والخروج صحبة فريدة على الأقدام، لا كتشاف هذه المنطقة. حتّى قبل ان يغريني شاطئ(سيدي فرج) بمنشآته السياحيّة ومركباته التجاريّة. اذهلني مصادفة وجودي دائمًا في الأماكن التي يطوقها التاريخ، والتي تشهر ذاكرتها في وجهك عند كل منعطف. "سيدي فرج" ليس في النهاية اسمًا لوليّ صالح، مازال النّاس يترددون على ضريحه، طالبين بركاته، إنما اسم المرفا الذي دخلت فرنسا منه على الجزائر. فهنا رست سفنها الحربية ، ذات 5 يوليو من صيف 1830، بعدما تم تحطيم الوسائل الدّفاعية المتواضعة الموضوعة في مسجد " سيدي فرج" وتحويله مركزًا لقيادة أركان المستعمرين. وشاءت الأقدار، او بالأحرى شاء المفاوضون الجزائريون، ان يجعلوا فرنسا تغادر الجزائر بعد قرن وثلاثين سنة، في هذا التاريخنفسه، ليصبح 5 يوليو أيضًا تاريخ استقلالنا. نعم.. في زمن سابق، كان الجزائريون يصرّون على كتابة التاريخ بغرورهم! "حادثة المروحة "الشهيرة نفسها، والتي صفع بها الدّاي وجه القنصل الفرنسي، والتي تذرعت بها فرنسا آنذاك لدخول الجزائر، بحجة رفع الإهانة، ليست إلا دليلاً على كبريائنا أو عصبيتنا ..وجنونا المتوارث. وربما كغمزةٍ للتاريخ، تفنن الجزائريون غداة الاستقلال في هندسة هذا المرفق، وبنوه على شكل قلعة عصرية، جاعلين برج (سيدي فرج) ومنارته ، ذوي علوّ شاهق أو هكذا يبدوان وكأن هناك من يتوقع قدوم عدو من البحر.. ولكن العدو منذ ذلك الحين. لم يعد يأتي من البحر.. ولا بالضرورة من الخارج! سعدت ذلك اليوم بمشواري الصباحي . أذكر أنني مشيت يومها دون هدف محدد. بانبهار الا كتشاف الأول وعدت إلى البيت مع فريدة محملتين بمشتريات ..وأحلام مختلفة. كنت أشعر أنني حققت حلماً صغيراً، لم يكن على بساطته في متناول يدي . اكتشفت أن أمنيتي لم تكن تتجاوز المشي باطمئنان في شارع . في البيت كانت الحياة هادئةكما لم أعهدها من قبل . وكنا بدأنا نعيش أنا وفريدة على إيقاع جديد يتناسب مع حياة المصيف. فبرغم خلافاتنا السابقة، وبرغم اختلاف عمرينا ، وثقافتينا، وذوقينا ، كنا سعيدتين بوجودنا معاً، بعدما أصبح بيننا تواطؤ الحرية المؤقتة، التي نزلت علينا معاً، والتي لم تكن تعني ، في ظروفنا تلك، المفهوم نفسه لكلتينا. فبالنسبة إلى فريدة التي قضت عمرها عبدة في بيت الزوجية، ولم تغادره سوى لتعود إلى بيت أخيها مطلقة، لم تكن الحرية سوى إمكانية النظر إلى الآخرين من شرفة بحرية وهم يعيشون ..ويسبحون ويتحمصون تحت الشمس نيابة عنها . الحرية لم تكن أكثر من حقها في الحلم . أما حريتي فقد جاءت معاكسة لمنطق حريتها . لقد أصبحت أنا امرأة حرة، فقط لأنني قررت أن أكف عن الحلم! اكتشفت ذلك البارحة . عندما فتحت دفتري الأسود الذي أهملته بعض الشئ منذ قدومي، كي أسجل عليه أول فكرة توصلت إليها أخيراً:"الحرية أن لا تنتظر شيئا ". وكان يمكن أن أكتب هذا في صيغة أخرى كأن أقول :"الترقب حالة عبودية ". فلقد توصلت إلى الأولى من خلال الثانية. ولكن ما كدت أتحرر من عبودية الإنتظار، حتى وقعت في عبودية الكتابة. وهو ما جعل فريدة تجد في بقائي بالبيت، وعكوفي الدائم على الكتابة، علامات مثيرة للقلق. وكانت تشعر تجاهي بمسؤولية مزدوجة . نظراً إلى سنها، وإلى كونها مكلفة من طرف أخيها بالسهر على صحتي . فراحت تغريني بمشاهدة التلفزيون، وتحثني على الخروج. وهكذا قررت ذات عصر أن أخرج، هربًا من النوم والكتابة ، اللّذين يتناوبان عليّ في هذا الوقت بالذّات.. في الواقع، حيث كنت، حالةً من الضّجر الجسدي تنتابني كل ّيوم في توقيت القيلولة. وكيفما كان الطّقس، يطاردني هذا الإحساس حتى مجيء الغروب . ويضعني كل عصر أمام الأسئلة نفسها: ماذا يفعل الناس هذا الوقت بوقتهم.. وأجسادهم؟ وكيف ينفقون هذه الساعات؟ ولماذا؟ في العصر دون أيّ وقت آخر، ذبذبات عالية من الشّهوة تسيطر على تلك الغرف النسائية ، التي تنتقل فيها النساء بثياب البيت.. متكاسلات.. ضجرات؟ ولم يكن الوقت مناسبًا لأعثر على أجوبة لكلّ هذه الأسئلة. فاكتفيت بأن أرتدي أول فستان صادفني، أذكر أنني اجتزت شارعنا بخطًى كسلى. رحت أتفرّج على تلك البيوت ذات النّوافذ الزرقاء..أو الخضراء، والّتي تعيش قيلولتها بسكينة لم أعهدها. لاشيء كان يشبه هنا شوارع قسنطينة، المكتظة بالسّيارات والمارّة، وضجيج الحياة. كل شيء هنا جميل ونظيف، ومهندَس بذوق، وكأنه ينتمي إلى مدينة أخرى. أوكأنه وجد خطأً هنا. ولولا وجود بعض السيارات على جانب رصيفه، ومرور أحدهم وهو عائد من مخبز، أو من ملعب "تينِس" ، لتوقّع المارّ من هنا أنّ لا أحد يسكن هذا الشارع. فهذا الشارع، يستيقظ وينام بهدوء، وبحضارة لا علاقة لهما بصراخ الباعة والأطفال، ونداء المآذن التي تستيقظ عليها شوارع قسنطينة. أمام مخبزة فاجئتني رائحة الخبز الطازّج. فدخلت مستسلمة لجوع مفاجىء. اخترت تشكيلة من قطع الحلوى، ورغيفين. ثمّ تذكرت أنّ مشواري لم ينته . فطلبت من البائع أن يحتفظ لي بها. وواصلت جولتي بحثًا عن بائع الجرائد. حيث رحت أقلّبها بفضول من لم يطالعها منذ أسبوع. كلّ شيء أصبح فجأة يغريني بالقراءة. وكأنني أستيقض هذا الصّباح لأكتشف العالم. وأقتنيت مجلّة نسائيّة..وأخرى سياسية. وجرائد بالعربية وأخرى بالفرنسية. ولم أسأل نفسي إن كنت سأطالعها حقّاً. لذّتي كانت في اقتنائها. أنا التي كانت الجرائد تأتيني حتى الآن، مدفوعة ومنتقاة، حسب ذوق زوجي وإهتماماته! أذكر أنني كنت أطالع إحداها، عندما جاءني من الخلف صوت يقول"دعي الجرائد..لا شيء يستحقّ القراءة هذه الأيام !". انتفضت ..والتفتُّ خلفي . وكان هو. تسمّرت مكاني دهشة. تأمّلته غير مصدّقة. فاجأني صمت الارتباك الجميل فبقينا للحظات يتأمّل أحدنا الآخر بوقع المصادفة . أتوقع أنّ حمرةً قد علت وجنتيّ اللتين نسيت أن أضع عليهما حمرة، وأنني تلقائيّاً مددت يدي إلى شعري لأرفع خصلا ته، وأنه تماديًافي إرباكي، لم يخلع نظّاراته. وكأوّل مرة رّاح يتأمّلني. قال فجأة: _أعترف بأنني لم أتوقّع وجودك هنا.. قلت وكأنني أعتذر عن هيأتي: _ولا أنا توقعت شيئًا كهذا.. واصل مبتسماً: _أما قلت لك تعلّمي أن تثقي بالقدر؟ أجبت وقد استعدت صوتي: _أذكر ذلك .. ولكن لنقل إنني أعاني أزمة ثقة.. بدا على صاحب المحلّ اهتمام خاص بحوارنا، نظراً إلى عدم وجود زبائن غيرنا. وتفاديًا لمزيد من فضوله، طلبت من محدثي أن يشتري جريدته ونغادر المكان. ولكنّه ابتسم وقال: أنا لم آت لأشتري جرائد. سألته ونحن ننسحب: _وماذا جئت تفعل إذن؟ قال: _الآن بإمكاني أن أقول إنني جئت لأراك.. ولكنني جئت لأشتري سجائر لاغير. ثم أضاف وهو يفتح علبة السجائر: _أنا أيضًا..لم أعد أثق بشيء. وأشعل سيجارته الأولى. مشينا خطوات معًا، دون وجهة محددة، معرضين جنوننا للأنظار ثم توقفنا فجأة مثقلين بحمل الأسئلة. أمسك فجأة بذراعي، وكأنه يريد أن يوقظني من حلم، كما يوقظ أحدهمىأولئك الذين يمشون أثناء نومهم. وقال: _أريد أن أراك.. تكهرب جسدي للمسته.. قلت: _ولكن.. _ليس لهذه الكلمة من مكان بيننا. يكفي أنها تحيط بنا من كل جانب. قلت: لا أدري كيف يمكن أن يتم ذلك.. أخذ مني جريدة كنت أحملها. أخرج من جيبه العلوي قلم رصاص. وخطّ على طرفها رقم هاتف وقال: _أطلبيني على ها الرقم، سنتفق على التفاصيل.. أخذت الجريدة منه ، وأنا لا أصدق ما يحدث لي. سألته بتلقائية مقصودة: _ هذا الرقم.. رقم ماذا؟ أقصد هل هو رقم مكتب ام منزل؟ أجاب: _إنه رقمي قلت وأنا أستدرجه لمزيد من البوح: _ولو حدث وردّ أحد على الهاتف.. أطلب منه التحدّث إلى من؟ قال متجاهلاً قصدي: _لا أحد غيري يرد على الهاتف.. أغلق أمامي في جملة واحدة أي مجال لسؤال آخر ، وخاصة للسّؤال الأهم؛ فهذه المرة أيضًا لن أعرف اسمه.. افترقنا. أنا بالارتباك نفسه، وهو بذلك الحضور الواثق نفسه. لم يلح لأتصل به في أقر ب وقت. وكأنه كان واثقاً من أن ذلك سيحدث. لم يسألني ما لذي جاء بي إلى هنا.. وإلى متى سأبقى؟ وكأن تلك التفاصيل لا تعنيه تماما, أو كأنه يعرف برنامجي كاملاً! قال فقط: - شهية أنت اليوم.. ثم أضاف ونظراته تتدحرج على ثوبي الأسود نفسه. - أحبك في هذا الثوب.. ثم واصل بعد شيء من الصمت: - وأحسده! افترقنا دون وداع كما التقينا دون سلام. فهكذا تحدث الأشياء معه دائما. لم يحاول أحدنا أن يستبقي الآخر, بكلمة إضافية, أو بنظرة. كان لنا إحساس مشترك بأننا على موعد أجمل. وأعترف بأنني كنت أتمنى لو انه بقي أكثر, لو أنه قال لي أشياء اكثر. ولكنني تقبلت ذلك اللقاء, كما جاء. مدهشاً.. مباغتًا.. موجزًا. لقاء في عمر سيجارة, أشعلها ونحن نلتقي, وأطفأها, وهو يسحقها أرضًا بحركة من قدمه قائلاً "أحسده!" ومضى. هذا الرجل الذي يحسد فستاني الأبسط, ويباغتني بكلمة لم أتوقعها, تراه يعني ما يقول؟ أم أن مصادفة ارتدائي هذا الثوب نفسه, تثير فيه كل هذه الرغبة متوقعا أنني ارتديته لأستدرج القدر. طبعًا, ليس هذا صحيحًا. ولو كان كذلك لتحضرت لهذا اللقاء بطريقة أفضل. مدهش الحبّ. يأتي دائماً بغتة, في المكان واللحظة اللذين نتوقعهما الاقل, حتى إننا قلّما نستقبله في هيأة تليق به. وأصدق تمامًا مصممة الأزياء "شانيل" التي كانت تنصح المرأة بأن تغادر كلّ يوم بيتها وهي في كل أناقتها, وكأنها ستلتقي ذلك اليوم بالرجل الذي سيغير حياتها, لأن ذلك سيحدث حتما في يوم تكون قد أهملت فيه هيأتها! أهو الحب؟ كلمة منه فقط, وإذا بي امرأة لا تشبه الأخرى. تلك التي غادرت البيت بثوب عاديّ.. بأظافر غير مطلية.. وملامح مرهقة. أعود إلى البيت أجمل, وإذا بالحياة أيضًا جميلة وشهية. والأجمل أنها مدهشة دائمًا. في كلّ منعطف لشارع يمكن لحياتك أن تتغير. يمكن أن يقع لك حادث، ويمكن أيضًا أن تلتقي برجل يحدث فيك زلزالاً جميلاً! في البيت وجدت فريدة جالسة أمام التلفزيون, وكأنها لم تقض حياتها امامه, لتشاهد المسلسلات الساذجة نفسها, أو كأنه لا ينتظرها في قسنطينة. أشفقت عليها من غبائها. كيف أشرح لها أن الإنسان، لا بد أن يعيش بملء رئتيه، بملء حواسه إحساسه, كلّ الأشياء التي يصادفها والتي لن تتكرر. كيف أقنعها بأن تحب الأشياء التي لن تراها سوى مرة واحدة, لا تلك التي تراها على جهاز التلفزيون كلّ يوم. كنت أشعر برغبة في أن أنقل إليها عدوى سعادتي, وشهيتي للحياة. ولكنها كانت امرأة محدودة الاحلام, محدودة الذكاء. فوجدت في سذاجتها نعمتي. فهي على الأقل لن تنتبه لما يحلّ بي. رفعت رأسها عن الشاشة لتسألني, إن كنت فكرت في إحضار الخبز. أجبتها بشهقة الدهشة, أنني نسيته عند الخباز. فكّرت وأنا أنصرف نحو غرفتي لأغير ثيابي, أنني دخلت رسميّا مرحلة الحماقات الجميلة. وأنني إذا كنت قد نسيت حلويات قضيت نصف ساعة في اختيارها, فمن المتوقع أن أنسى بعد الآن أشياء أخرى، وأقيم في كوكب آخر، لا علاقة له بتفاصيل "عالمي الأرضي". ما كدت أغير ثيابي حتى حملت جرائدي وذهبت نحو الحديقة, لا بنية مطالعتها, إنما بنية أن أخلو بنفسي لأتصفح قصتي مع هذا الرجل الذي طاردته لاهثة في شوارع قسنطينة.. وعندما يئست من أمره وسافرت, وجدته قد سبقني إلى هنا. عجيبة هي الحياة بمنطقها المعاكس. أنت تركض خلف الأشياء لاهثاً، فتهرب الأشياء منك. وما تكاد تجلس وتقنع نفسك بأنها لا تستحق كل هذا الركض، حتى تأتيك هي لاهثة. وعندها لا تدري أيجب أن تدير لها ظهرك أم تفتح لها ذراعيك، وتتلقى هذه الهبة التي رمتها السماء إليك، والتي قد تكون فيها سعادتك، أو هلاكك؟ ذلك أنك لا يمكن ان لا تتذكر كل مرة تلك المقولة الجميلة لأوسكار وايلد "ثمة مصيبتان في الحياة: الأولى أن لا تحصل على ما تريده.. والثانية أن تحصل عليه!". أتساءل، أي المصيبتين تراه هذا الرجل؟ وماذا لو عاد ليكون مصيبتي الثانية, بعدما كان مصيبتي الأولى؟ أتفقد الجريدة التي خطّ لي عليها رقم هاتفه، بقلم الرصاص. أحاول أن أستشف قدري معه من تلك الأرقام. تخيفني الأصفار الكثيرة. ولكن باقي الأرقام تطمئنني فأنا أحب الأرقام الثلاثية الجذور.. أشعر أنها تشبهني. ولكن لا أمنع نفسي من التساؤل لماذا خطها بقلم الرصاص؟ ألأن الرسامين يكتبون عادة بقلم الرصاص؟ أم لأن الأشياء معه قابلة لأن تمحى في أية لحظة؟ أم لأنه زمن الرصاص لا غير, الرصاص الذي يكتب قصة ويلغي أخرى. الدليل أن رقم هاتفه جاء مكتوبا على هامش صغير للبياض، في الصفحة الأولى لجريدة تغطيها أخبار الفجائع الوطنية.. والقومية. لماذا يأتي حبه محاذيا لمآسي الوطن، وكانه لم يبق للحب في حياتنا، سوى الماحة الصغيرة التي تكاد لا ترى على صفحة ايامنا. ألم يعد هناك من مكان لحب طبيعي وسعيد في هذا البلد؟ الفرح يسكنني. وجرائد الحزن تتربص بي ملقاة على طاولة الحديقة. قبل ان اتصفحها أندم على إحضارها. أتذكر ذلك الذي كان يقول "لم يحدث أن اشتريت جريدة عربية إلا وندمت على اقتنائي لها..". أستعجل قلب صفحاتها. أخاف أن تغير أخبارها مزاجي. ولكن بعض عناوينها الكبرى تستوقفني وتستدرجني إلى قراءتها جميعها من باب المازوشية! أن تشتري جريدة عربية ذات حزيران من سنة 1991 لتقرأ طالع هذه الأمة، فأنت تعرض نفسك لذبحة قلبية. أما أن تشتري جريدة جزائرية في ذلك التاريخ نفسه, تجمع صفحتها الأولى بين خيباتك الوطنية والقومية فذلك ضرب من المجازفة بعقلك. قبل أن تفتح الجريدة, يهجم عليك الوطن بعناوينه الكبرى، "السلطات العسكرية تعلّق حظر التجوّل إلى ما بعد عيد الأضحى" "اعتقال 469 شخصا خلال الأيام الثلاثة الماضية" "جبهة الانقاذ تعلن العصيان المدني، وبدء الإضراب والاعتصام المفتوح" "حضور عسكري مكثف حول المباني الرسمية والمساجد" "عملية للإستيلاء على الباصات التابعة للنقل الحضريّ استعدادا لمسيرة ضخمة على العاصمة". تهرب إلى أسفل الصفحة فتنتظرك أوطان اخرى, كنت تعتقد أنها أوطانك. فهكذا أكد لك منذ طفولتك شاعر على قدر كبير من السذاجة، مات وهو ينشد "بلاد العرب أوطاني.." وهو لم يعد هنا اليوم ليقرأ معك عناوين جريدة عربية بتاريخ 15 حزيران 1991 "استمرار محاصرة مخيمي "الميه وميه" و "عين الحلوة" الفلسطينيين من طرف الجيش اللبناني" "العراق يقوم باعتقال عشرات المصريين وتعذيبهم"، "الإعدامات مستمرة في الكويت في حق الرعايا العرب"، "انفراد الشركات الأمريكية بإعادة اعمار الكويت"، "إسقاط ديون مصر". والخبر السعيد في كلّ هذا، ليس الأخير. وإنما ستجده في صفحة داخلية بخط كبير. "إقدام الديوان الجزائري للحوم بمناسبة عيد الأضحى على استيراد 220 ألف رأس غنم من استراليا, وصلت معظمها سالمة". وسالمة تعني فقط أنها مازالت على قيد الحياة. رغم قضائها شهرا في البحر مكدسة في باخرة وأن معظمها لا ينتظر سوى رحمة الذبح صباح العيد, تماما كما ينتظر الجزائريين منذ أشهر، متزاحمين مكدسين بالعشرات امام سفارة استراليا، رحمة الحصول على تأشيرة الهروب إلى بلد، تقول إشاعة كاذبة إنه يبحث عن يد عاملة! وتماشيا مع حدث وصول هذه الباخرة, بحمولتها المباركة من الأكباش, خصصت الجريدة صفحة كاملة, يتجادل فيها البعض ويجتهدون لحل الإشكال الديني الذي طرحته أذيال الأغنام الأسترالية المبتورة، التي لا تشبه ما تعوده الجزائريون من أغنام ذات ألية سمينة. وهل تجوز التضحية بها؟ لينتهي بهم الأمر إلى فتوى تقول "إن بتر الذنب كله أو جزء منه، بمقدار الثلثين، يعد عيبا في الأضحية، سواء بتر الذنب كله أو بعضه، خلقة أو بعد خلقة" وليصبح السؤال بعد ذلك "ماذا نفعل إذن بالأغنام؟ وبماذا نضحي صباح العيد؟". في الواقع، الإشكــــــال الحقيقي لم يكن في أذناب الأغنام الأسترالية، التي شغلت عامتنا وفقهائنا لأيام، وإنما في تلك الأكباش البشرية المكدسة أمام سفارة أستراليا، وفي سؤال كبير ومخيف: كيف.. وقد كنا شعباً يصدر إلى العالم الثورة والأحلام, أصبحنا نصدّر البشر، ونستورد الأغنام؟ * * * طبعًا..لم يكن زمنًا للحبّ ولكن أليست عظمة الحب في قدرته على الحياة في كل الأزمنة المضادّة؟ الدّليل أنّ لاشيء مما قرأته أو مما حدث لي بسبب هذا الرجل، فكرة أعدل عن فكرة حبّه. شيء يجرفني نحوه هذا المساء. شيء يحملني. شيء يركض بي. شيء يجلسني جوار هاتف. على حافة السرير أجلس ، دون أن أجلس تمامًا. وكأننّي أجلس على حافّة قدري. امرأة ليست أنا، تطلب رجلاً قد يكون "هو". ورجل اسمه "هو"، يرتدي أخيرًا كلماته، لا كلماتي. يصبح صوتًا هاتفيّاً. قد يقول "ألو". قد يقول"نعم" قد يقول" من؟". امرأة عجلى تطلب أرقامه الستة. وتنتظر كلمة منه؟ تقرر هكذا أن تبادره بالصّمت. وكأنها تتذكر أنها لا تعرف هي من تطلب بالتحديد. صوته يخترق صمتها. لا يقول" ألو". لا يقول "نعم". لا يقول "من؟". يقول: _كيف أنتِ؟ يواصل أمام دهشتها. _انتظرت هاتفك. يضع شيئًا من الصمت بين الكلمات يواصل: _جميل أن يأتي هاتفك ليلاً.. هي لم تقل شيئًا بعد .. وهو يتحدث إليها كأنه يراها بتداخل الحواسّ.. صوته يختزل المسافة بين حاسّة وأخرى. يعيد تنقيط الجمل. بعد تنقيط الأحلام. تعرفه من نقاط الانقطاع في كلامه. تعرفه، وتحبه بنبرته الهاتفية الجديدة، دافئًا، كسولاً. تقول له أول جملة تخطر في ذهنها: _أحب صوتك يجيب: _وأحب صمتك.. _هل أفهم أنّك لا تحب كلامي؟ _بل أريد أن أسمع منك ما أشاء ، لا ما تقولين. _ولكنّني لم أقل شيئًا بعد. _هذا أجمل. أتدرين أن الحيوانات لا تكذب لأنّها لا تتكلّم. وحده الإنسان ينافق. لأنه حيوان ناطق.. أي حيوان ممثل. _بأي حقّ تقول هذا؟ _بحق معرفتي بالحياة .. وحق معرفتي بك. _وماذا تعرف عني؟ _أعرف ما يكفي لأحذرك .. وما يكفي أيضًا لأحبك. _وهل يجب أن أحذرك أيضًا؟ _بل يجب أن تحذري الحب.. وتحبيني _ولكننّي أحبك _حقّاً؟ _.... _لاحظي أنكِ بدأتِ تتراجعين صمتًا. الكلمات الجميلة سريعة العطب . ولذا لا يمكن لفظها كيفما اتفق! لا تدري كيف تواصل الحديث إليه. وكل ما ستقوله سيصطدم بذكائه الحادّ. وبنظرته الفريدة إلى الأشياء.. تقول: _أريد أن أتعلم منك فلسفتك في الحياة. يضحك: _أنا.. أعلمك فلسفة الحياة؟ أنت تطلبين أمرًا مستحيلاً. أنا أعطيك رؤوس أقلامٍ فقط. نحن لا نتعلم الحياة من الآخرين. نتعلمها من خدوشنا.. ومن كل ما يبقى منا أرضًا بعد سقوطنا ووقوفنا. _وهل يحدث هذا دومًا؟ _طبعًا.. ستتعلمين كيف تتخلين كل مرة عن شيء منك، كيف تتركين خلفك كل مرة أحدًا..أو مبدأً..أو حلمًا. نحن نأتي الحياة كمن ينقل أثاثه وأشياءه. محملين بالمباديء.. مثقلين بالأحلام.. محوّطين بالأهل ولأصدقاء. ثم كلما تقدم بنا السفر فقدنا شيئًا ، وتركنا خلفنا أحدًا، ليبقى لنا في النهاية ما نعتقده الأهم. والذي أصبح كذلك، لأنه تسلق سلم الأهميات، بعدما فقدنا ماكان أهم منه! تجد في حديثه بعض ما يساعدها على استدراجه للحديث عن نفسه. تسأله: _ماذا تركت خلفك؟ يصمت. ويطول صمته. تتذكر أنه يجيب هكذا عن الأسئلة التي لا تستحق الجواب . فتصحّح خطأها. _أقصد.. وما هو الشّيء الأهم بالنسبة إليك الآن؟ يجيب بصوت غائب: _أنتِ.. يفاجئها الجواب، وكأنها لم تكن تتوقعه، هي كانت تتوقع أن يسألها "وأنتِ؟" ولكنه لا يفعل.. يواصل: _سأنتظر موت الأوهام حولك. فربما يومها أصبح الأول في سلّم أولويّاتك عن جدارة.. أو عن مصادفة! تقاطعه: _لست في حاجة إلى خيبات أكثر لأحبك. أنا لا أملك غيرك. _بل أنت تملكين الكتابة، أيْ وهم التّفوق. ولن نتساوى إلا عندما تكتب قصتنا الحياة.. لا أنتِ! تسأله: _أعدت بنيّة معاكستي..؟ _بل عدت بنية حبك. افتقدتك كثيرًا كل هذا الوقت. لا أفهم لماذا جاءت قصتنا معقدة إلى هذا الحدّ. أتدرين؟ لو كنّا أمّيّين لسعدنا بحبّنا. الأميّ يعرف ما يريده من امرأة، وتعرف هي ما تنتظره منه. ولكن نحن استهوتنا لعبة الكلمات. فرحنا نقسو على الحب إكرامًا للأدب. تصوّري.. لو كنّا أمّيّين لقلت لك من البدء "أشتهيك" وانتهى الأمر. ولكن، هانحن بعد منتصف الّليل نتحدث على الهاتف لا لنحبّ بعضنا بعضًا.. وإنّما لنفسّر هذا الحب . _لنكن أمّيّين إذن! _لا نستطيع .. الجهل ترف لم يعد في متناولنا. _وماذا نفعل إذن؟ _لنكن رجلاً وامرأة لا غير. لنحب بعضنا بعضًا بمنطق الحبّ، لا بمنطق الأدب. لا يمكن أن نخرج من عتمة الحبر لندخل عتمة الليل. أطالب لحبنا بشرعيّة الضّوء. أريد أن أراكِ..أن ألمسك.. أن أقول لك أشياء دون أن نكون مجبرين على الكلام. _ولكنّني لا أدري أين يمكن أن نلتقي؟ _ثمّة مقاهٍ ومطاعم جميلة حيث أنتِ.. يمكن أن تتقي فيها. _ولكن كلّ جيراني هم من الضّبّاط.. وهم يعرفون زوجي. ولا يمكن أن أجازف بموعد هنا. يصمت بعض الوقت ثم يقول: _إذا شئت بإمكاننا أن تلتقي عندي في البيت. ولكنّي أسكن في العاصمة. على بعد ساعة منك بالسّيارة.. لا أدري إن كان هذا يناسبك؟ أقول: _دع لي يومًا للتفكير.. سأتدبّر الأمر. ثم أواصل كمن تذكّر شيئًا: _ولكن قبل ذلك.. أريد أن أعرف من تكون. يجيب وكأن السؤال ليس على هذا القدر من الأهمّية: _أحبّيني دون أسئلة.. فليس للحب أجوبة منطقيّة. _ولكن كيف تريد أن أزور رجلاً لا أعرف حتّى اسمه؟ _ستعرفين كل شيء في الوقت المناسب . _ولكنّني امرأة لا تعرف الانتظار. _خسارة.. لأن الأشياء تأخذ قيمتها من انتظارنا لها. ثم يواصل: _وبهذا المقياس أنت المرأة الأشهى، لأنك المرأة الّتي انتظرتها الأكثر. لقد انتظرتك عمرًا، وبإمكانك أن تنتظري أيامًا أو أسابيع. دعي للوهم عمرًا أطول. لا أذكر ماذا قال بعد ذلك، كي تفاجئنا حالة لغويّة زجّت بنا في رغبة مباغتة، عمد إلى تمديدها إلى أقصاها دون جهدٍ واضح، عدا جهد رغبته في التساوي بأي رجلٍ أمّي.. يشتهي امرأة! استيقظت في اليوم التالي مأخوذة بحالة عشقيّة، لولا أن نشرة الأخبار الصباحيّة عكّرت مزاجي.. فقررت أن أطلب زوجي لأعرف منه ما يحدث في قسنطينة. ولكنّني فوجئت بالهاتف معطّلاً، وهو ما زاد قلقلي وجعلني أتّجه نحو أول فيلاّ مجاورة. لاستعمال هاتفهم. ولكن صاحبة البيت استقبلتني ببرود، وهي تتفحصني بنظرة لا تخلو من الإهانة. وهو ما زاد في إرباكي. وجعلني أفسر نظراتها في البدء بكوني جئتها في ثياب البيت.. وربما في زيّ غير لائق بزيارة. أمام الباب الذي فتحته لي دون أ ن تدعوني إلى الدخول ، رحت أشرح لها أنني أسكن الفيلا المجاورة وأن هاتفي معطل. وقبل أن أواصل ، قالت وهي تقاطعني بلهجة لا تخلو من لومِ نسائي: أنت الجارة الجديدة.." كل يوم عند العازبة عرس"! أجبتها وأنا أتوقع أنها تخلط بيني وبين أخرى: _أنا أسكن في الفيلا 68 على يمينكم. وموجودة هنا منذ أسبوع فقط. أجابت بلهجة ساخرة: _عادة تبقى النساء هنا.. ليلة أو ليلتين لا أكثر! تجمدت مكاني. وكأن كلماتها صفعتني. ولكنني جمعت شجاعتي . وقلت: _أنا زوجة العميد... جئت لأسألك فقط عن سبب تعطل الهاتف لأنني لم أتمكن من الاتصال بزوج في قسنطينة. ولا علم لي بما يحدث في هذا البيت قبل مجيئي. بدا على المرأة ارتباك واضح. وراحت فجأة تفتح الباب، وتدعوني معتذرة إلى الدخول، وقد ندمت على ما قالته. معتقدة أنني إحدى الزائرات العابرات لهذا البيت، بعد أن شجعتها هيأتي الصباحية.. على مثل هذا الاعتقاد. وراحت تبحث عن كلمات تقنعني بها أنها توقعت أن أكو ن مقيمة في فيلا أخرى. وأنه نظرًا إلى خلو هذه الفيلات من المصطافين في باقي أيام السنة، تعود البعض اصطحاب عشيقاته وصديقاته إلى هنا، وهو أمر يزعجها لأنها تسكن هنا على مدار السنة. أبديت لها تفهمي، واعتذرت لها عن الإزعاج وأنا أودعها بأدب. ولكنها ظلت تلح لأتصل بزوجي من بيتها. وقالت إن لا ضرورة لإزعاجه بمشكلة الهاتف. فسيتكفل زوجها بالاتصال بالجهات المعنية لإصلاحه فورًا. عند عودتي لم أخبر فريدة بما قالته لي الجارة. احتفظت بتلك الإهانة بنفسي. وماذا عساها تقول وهي تحتفظ في أعماقها أن من حق أخيها أن يتصرف كيفما يشاء، ليس فقط لأنه رجل بل لأنه أيضًا رجل دولة. العجيب أنني لم أشعر بالغيرة. إحساسي كان أقرب إلى الغثيان منه إلى إحساس آخر. فلم أشأ أن أفكر في النساء اللاتي تناوبن على هذا السرير. ولم أكلف نفسي مشقة وضع ملامح لوجوههن. شكلهن لا يعنيني. فأنا أتصورهن من النوع الساقط والبذيء المظهر. وربما كن شقراوات مزيفات. عادة هذا النوع يروق لزوجي وربما كان يروق لكل الرجال. وهو أمر أتفهمه تمامًا. ولكن مالا أفهمه،هو لماذا تزوج زوجي سمراء، إذا كان يحب الشقراوات؟ ولماذا تزوج مرة ثانية.. إذا كانت لا تشبعه سوى الوجبات التي يتناولها خارج البيت؟ أتذكر صديقة لي كان زوجها مغرمًا بالشقراوات. وكان يزعجها أن تطاردها الألسن هامسة دائمًا "لقد رأينا زوجك صحبة شقراء" فقامت المسكينة بصبغ شعرها .لا أملاً في إغرائه أو استعادته، وإنما حتى يبدو للناس ن بعيد أنه برفقتها. وكأن المهم في ذلك ، وإنما حتى يبدو للناس ن بعيد أنه برفقتها. وكأن المهم في هذه الحالات إنقاذ المظاهر! أكبر عقاب حلّ بي يومها، لم يكن ما سمعته من تلك المرأة، وإنما عدم تمكني من سماع صوت ذلك الرجل. في اليوم التالي، استيقظت على صوت زوجي الذي أعلن لي عودة الخط الهاتفي. جاء صوته ليخرجني من كوابيس ليلتي . ولكن من دون أن يوقظ الأحلام الجميلة داخلي. للأحلام صوت داخلي. أسميته"هو". هو الذي لا اسم له. والذي ليس سوى حرفين للحب. تتناوب عليها حروف النهي وحروف النفي.. وحروف التحذير.. وحروف التساؤل. "هو" ليس أكثر من "لا" و"لن" و"هل" و"لِمَ" .. و"متى؟"..و"كيف؟". "هو" ليس أكثر من حرفين وستة أرقام. ليست أرقام هاتفه . إنها أرقام اليانصيب التي ألعب بها قدري. _اشتقتك.. لِمَ لم تطلبيني البارحة؟ _كان الهاتف معطلاً.. _وهل حسمت أمر لقائنا؟ _أجل إذا كان يناسبك سأزورك اليوم بعد الظهر. يضع شيئًا من الصمت بيننا ثم يقول: _أنا ليس لي برنامج غيرك. وبإمكانك أن تأتي متى شئتِ، ولكن.. _ولكن ماذا..؟ _الوضع لا يوحي بالأمان اليوم. أطمئنه: _لا يمكن أن يكون أسوأ مما عرفته في قسنطينة. يجيب: _لا أعتقد أن تكوني عرفت شيئًا كهذا. يثير فضولي. أسأله: _مالذي يحدث؟ يجيب: _لقد تحولت ساحات العاصمة في الليل إلى غرف نوم ضخمة. افترش فيها الإسلاميون الأرض. لا ينهضون منها إلا في الصباح لإطلاق الشعارات والتهديدات.. والأدعية إلى الله.. _ومتى حصل كل هذا؟ _البارحة.. لقد جاءت بهم الباصات بالعشرات حتى هنا. نساءً ورجالاً.. أسأله متعجبة: _النساء أيضًا ؟ يجيب: _لقد وصلن في أتوبيسات مسدلة الستائر. لا يبان منها إلا القرآن المرفوع خارج النوافذ. أسأله وقد بدأت أفقد شيئًا من حماسي: _وهل ما يحدث قريب منك؟ يجيب: _طبعًا.. أنا أسكن شارع العربي بن مهيدي.. إنه شارع متفرع عن ساحة الأمير عبد القادر حيث يتم الاعتصام.. أقاطعه: _أعرف هذا الشارع جيدًا. كدت للحظة أتخلى عن مشروعي الجنوني. ولكنني كنت على درجة من الإحباط، أصبح معها عدم اللقاء به هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لي. توقعت أن أفاجئه وأنا أقول: _سأسلك طريق البريد المركزي للوصول إليك. أعطني العنوان فقط. ولكنه أجاب بفرح أسعدني: _توقعت منك جوابا كهذا.. إنه يشبهك. ثم واصل: _أفهمت لماذا أحبك؟ قلت وأنا أمازحه: لا.. لم أفهم . ستشرح لي ذلك عندما أجيء! * * * إنها الثالثة أخيرًا. أخيرًا إنها الثالثة. أيها الحب تأخرت كثيرًا. فلماذا تستعجلني الآن إلى هذا الحد. وتركض بي في سيارة ستوصلني إلى منتصف الرغبة، لأواصل وحدي المشي لاهثة في شارع الخوف، متحايلة تارة على عيون سائق يحترف التجسس، وتارة على نظرات مارة متفرغين للفضول. ولكن من يملك ما يكفي من الحدس، لقراءة خطى امرأة ذاهبة أو عائدة من موعد حب؟ ذلك أنه عكس كل الذين يملكون وقتًا كافيًا لتبذيره، الحب معك لا صبر له؛ يعلمك كل شيء دفعة واحدة، والشيء ونقيضه في تجربة واحدة.يعلمك أن تكون أنت وآخر في آن واحد. ويجعلك ممثلاً من الدرجة الأولى. أجتاز ساحة الأمير عبد القادر راجلة بخطًى رصينة وداخل ثياب محتشمة. أتعلم المشي داخل هذه العباءة.. وهذا الشال الذي يغطي شعري، وكأنني لم أخلعهما يومًا. أشعر بأمان، وسط عشرات الرجال ذوي الأزياء العجيبة والملامح العدوانية، والمشغولين عن همومي الأرضية، بهموم الآخرة. مرددين هتافات وشعارات دينيّة وسياسيّة. وكنت أردت تفادي المرور بهذه الساحة . ولكن كان لا مفر من مروري بها، وقد ازدحمت كل الشوارع المؤدية إليها، وتلك المحيطة بها. وهو ما كان سيؤخر موعدي بساعة على الأقل. لا أذكر أني مررت من هنا، إلا وصدمتني مقاييس تمثال الأمير عبد القادر. ووضعتني في حالة عصبية. واليوم أيضًا على عجلتي، يلفت انتباهي، وجوده وسط بحر من الحشود البشرية التي لا يكاد يعلو عليها سوى بمترين أو ثلاثة. حتى أن بعضهم تسلقه بسهولة وحمّله أعلامًا خضراء.. وسوداء. ما يحزنني حقًا، هو أحجام تلك التماثيل الهائلة التي تزين العواصم العربية. لحكام لم يقدموا لشعوبهم غير المجازر والدمار. مقارنة بهذا التمثال المتواضع لرجل وهبنا كبرياء التاريخ. وأسس لنا أول دولة جزائريّة أذهلت فرنسا نفسها. رجل لم يطالبنا بأن نعيد رفاته من الشام، ولا بأن نصنع له تمثالاً في ساحة هو أكبر منها. إنه زمن عجيب حقًا، اختلّت فيه المقاييس، وأصبحت فيه الشعوب تصنع تماثيل لحكامها. على قياس جرائمهم.. لا على قياس عظمتهم! لذا مازال الأمير منذ ربع قرن، غير راضٍ عن وجوده بيننا، مولّيًا ظهره إلى مقر حزب جبهة التحرير.. ووجهه صوب البحر.. وهو ما غذّى كثيرًا من النكت السياسيّة لدى سكان العاصمة. أجل..حدث أن كنا يومًا شعبًا يتقن السخرية، فكيف فقدنا الرغبة في الضحك؟ وكيف أصبح لنا هذه الوجوه المغلقة.. والطباع العدائية .. والأزياء الغريبة التي لم تكن يومًا أزياءنا؟ كيف أصبحنا غرباء عن أنفسنا ، وعن بعضنا بعضًا، غرباء إلى حد الخوف، وحد الاحتياط من عيون تتفحصنا، أو خطى تسير خلفنا. أمشي. يقودني الخوف إلى السرعة تارة. وإلى التأني تارة أخرى. محتمية بثياب لا تشبهني، استعرتها هذه المرة من امرأة أخرى. ليست سوى فريدة. ها أنا أعيش بين ثياب امرأتين. إحداهما تحترف الإغراء .. والأخرى التقوى. أذهب لملاقاة ذلك الرجل مرة في ثوب أسود ضيق، ومرة في عباءة فضفاضة، لا يبدو منها سوى وجهي . تتناوب عليّ امرأتان، كلتاهما أنا. ولأننا نفكر، ونتصرف كل مرة حسب ما نرتدي وحسب ما نخلع، فانا الآن، أمر بهذا الحشد من الناس بتواطؤٍ غامض. أكاد أشاركهم حماسهم وهتافهم، لولا أن عيني تواصلان البحث عن رقم البناية التي ينتظرني فيها ذلك الرجل.. وعقلي يواصل السؤال. لماذا يوجد هذا الرجل دائمًا بمحاذاة السياسة ويعود بتوقيت التاريخ؟ ولماذا معه، يحتاط فرحي من الحزن؟ أمام مقهى "الميلك بار" الذي اجتازه بخوفٍ بالغ، أتذكر فجأة "جميلة بوحيرد" التي، أثناء الثورة، جاءت يوما إلى هذا المقهى نفسه. متنكرة في ثياب أوروبية. وقد طلبت شيئا من النادل, قبل أن تغادر المقهى تاركة تحت الطاولة, حقيبة يدها الملأى بالمتفجرات، تلك التي اهتزت لدويها فرنسا، مكتشفة- هي التي كانت تطالب برفع الحجاب عن المرأة الجزائرية- أن هذا السلاح أصبح يستعمل ضدها. وأن امرأة في زي عصري، قد تخفي.. فدائية! بعد أربعين سنة، ها أنا الوريثة الشرعية لجميلة بو حيرد. أمر بهذا المقهى نفسه. متنكرة في ثياب التقوى.بعد أن اكتشفت النساء-هذه المرة أيضًا – أن ثياب التقوى قد تخفي عاشقة. تخبئ تحت عباءتها جسدًا مفخخًا بالشهوة. بخوفها نفسه، بتحديها وإصرارها نفسه. أمشي هذا الشارع. بعد أن أصبح الحب هو أكبر عملية فدائيّة تقوم بها امرأة جزائريّة. دومًا، كنت أقول لامرأة كانت أنا: لا تمري عندما تشعل الحياة أضواءها الحمراء. تعلمي الوقوف عند حاجز القدر. عبثًا تزوّرين إشارات المرور. لا تؤخذ الأقدار عنوة. وكنت أقول.. لقلب كان قلبي: حاول أن لا تشبهني. لا تكن على عجل. أنظر يمينك ويسارك، قبل ان تجتاز رصيف الحياة. لا تركب هذا القطار المجنون أثناء سيره . الحالمون يسافرون وقوفًا دائمًا، لأنهم يأتون دائمًا متأخرين عن الآخرين بخيبة! وكان يردّ: "كل من عرفتِ مشت على أحلامهم عجلات الوطن. والذين أحببتِ، تبعثروا في قطار القدر. فاعبري حيث شئت. ستموتين حتمًا.. في حادث حبّ!". في كل خطوة، كنت أشعر أنني حققت معجزة البقاء على قيد الحياة. وأعجب لأن قلبي مازال مكانه، رغم تسارع دقاته التي تدقّ في اللحظة نفسها، دقة شوقًا، ودقة خوفًا، على إيقاع هتافات تحملني وتغطي على كل صوت داخلي: "لا دراسة.. لا تدريس، حتى يسقط الرئيس" وتردّ أخرى "لا ميثاق.. لا دستور.. قال الله.. قال الرسول". ها هي ذي البناية أخيرًا. أكاد لا أجتاز بابها حتى أشعر أنني أغادر عالماً.. وأدخل آخر. درجها المتسخ لا يعنيني. مصعدها المعطل لا يثنيني. والطوابق الأربعة التي سأصعدها تزيد من حماسي. إن أجمل لحظات الحبّ.. هي عندما نصعد الدرج! أمام باب ينتظرني خلفه المجهول، أستعيد أنفاسي وأحاول أن أتفقد هيأتي. ولكن قبل أن أدق الباب، أراه يفتح أمامي. وقامة أعرفها تختفي قليلا خلفه. وكأنها تشير إليّ بالدخول. فأدخل.. وينغلق الباب خلفي. أنا التي خبرت عناوين الحب جميعها، أدري أن الحب لا يقيم في الفنادق من فئة خمسة نجوم، ولا في البيوت الباذخة البرودة. ولذا أسعدني أن يكون هذا البيت في بساطة عش ودفئه. أتجه منهكة دون استئذان نحو أول غرفة تقابلني. ألقي بحقيبة يدي على الأريكة. أوشك أن ألقي بنفسي أيضًا جوارها. ولكنني أبقى واقفة لحظة أتأمله. وكأنني أبحث فيه عن سبب يبرر كل هذا الجنون. يقترب مني، وتمتد يداه لترفع عن رأسي غطاء نسيت أن أخلعه. يوشك أن يقول شيئاً. ثم تسبق كلماته ابتسامة، يليها اعتراف لا يخلو من الحسرة: - كم اشتقتك..! ولا أملك إلا أن أجيبه: - وأنا.. ماذا غير الشوق جاء بي إليك؟ ليتك تدري كم كان المجيء إليك صعباً! يجلس على الأريكة المقابلة لي. يعبث بهدوء بذلك الشال الذي ما زال ممسكا به. يتأملني في هيأة لا تشبهني وكأنه يتعرف إلي، بينما أتأمل أنا تلك الغرفة التي يغطيها أثاث بسيط منتقى بذوق عزوبي، لا يتعدى أريكة كبيرة من المخمل، تشغل وظيفة الصالون. وطاولة، ومكتبة تمتد على طول الجدار المقابل. ولا تترك فيها الكتب المصطفة بنظام، سوى مكان لجهاز التلفزيون. ولجهاز موسيقى، تنبعث منه معزوفة خافتة على البيانو لريشار كليدرمان. أحبّ تطابق ذوقي مع ذوق هذا الرجل. وأحب أكثر، تطابق مزاجنا الغريب في التصرف عكس المنطق، كالاستمتاع إلى معزوفة موسيقية في يوم على هذا القدر من الجنون الصارخ. الأمر الوحيد الذي فاجأني. هو عدم وجود أية لوحات في هذا البيت. وهو ما كان سيساعدني على اكتشاف هذا الرجل. أسأله: _ماذا تستهلك عدا السجائر؟ _أستهلك الصبر.. والصمت. _وكيف يمكنك أن ترسم بهذه الأحاسيس الثلجيّة؟ _ومن قال لك إنني أرسم.؟ أن ترسم يعني أن تتذكّر.. أنا رجل يحاول أن ينسى. أقول: _أريد أن أرى بعض أعمالك..هل يمكن أذلك؟ يجيب: لا..ليس معي شيء منه. _وماذا فعلت بها..؟ _لقد تركتها في مدينة أخرى. يساورني فجأة إحساس بالشكّ في ما يقوله، بل إحساس بأنه يخفي شيئًا ما، أو يكذب، وأنه لم يكن يوماً رساماً. أسأله: _أين تعلّمت الرّسم. يجيب بما يؤكد ظنّي: _إن أسوأ شيء بالنّسبة إلى رسّام، هو دخول مدرسة للرّسم! كنت أريد أن أجادله في هذا الرأي. أو ربما فقط أستدرجه للحديث عن نفسه. ولكنه صمت. ولم يغادر صمته إلاّ ليحدّثني بعد ذلك عن الأوضاع السياسية. ويسألني إن كنت وجدت صعوبة في الوصول إليه. كان يتحدث. وكنت مشغولة عنه، بالإنصات إلى يديه. كانتا الشيء الوحيد الذي يتكلم كثيراً عليه. تعلّمت أمام أجوبته الهاربة، أن أستجوبهما. وجدت فيهما المدخل الوحيد الذي يؤدي إليه. إنهما بدءًا تفضحان كسله؛ فهو لا يستعمل منهما سوى واحدة: اليمنى دائمًا. أتأمل طويلاً أصابعه، أشعر أنها في امتلائها وطولها تقول الكثير عن رجولته. وأن طريقته في تقليم أظافره، باستدارة مدروسة، كأنه لا يريد أن يؤلم أحداً ولو عشقًا. تطمئنني، وتثير شهيّتي للمسات حميميّة، ولكنها لا تساعدني إطلاقًا على معرفة مهنته الحقيقيّة. هذا الرجل ليس رسامًا. يده أكثر رصانة من يدين تعيشان بعصبيّة الخلق. نحن نعرف عازف البيانو من رشاقة أصابعه. ونعرف النجار الذي غالباً ما يكون فقد إصبعًا من أصابعه. ونعرف الدهّان ونعرف الجزّار. ونعرف المعلم من الطباشير العالقة به، والفلاح الذي انغرس التراب في أظافره، وعامل المطبعة الذي أصبح الحبر جزءًا من بصمات أصابعه. مذهل هو عالم الأيدي، في عريه الفاضح لنا. ولا عجب أن يكون الرسامون والنحاتون، قد قضوا كثيرًا من وقتهم في التجسس على أيدٍ، كانوا يدخلون منها إلى لوحاتهم ومنحوتاتهم، حتى إن النحات "رودان" الذي أخذت الأيدي كثيرًا من وقته وتركت كثيرُا من طينها على يديه، كان يلخص هوسه بها قائلاً: "ثمة أيدٍ تصلي وأيدٍ تلعن، وأيدٍ تنشر العطر وأيدٍ تبرد الغليل.. وأيدٍ للحبّ". فكيف له إذن أن ينحت واحدة دون أخرى؟ ذلك أن اليدين، تقولان الكثير عن أشيائنا الحميمة. تحملان ذاكرتنا، أسماء من احتضنا يوماً. من عبرنا أجسادهم لمسًا أو بشيء من الخدوش. تقولان عمر لذتنا، عمر شقائنا. تفضحان العمر الحقيقي لجسدنا. تفضحان كلّ ما مارسناه من مهن. كلّ ما مارسنا أو لم نمارس من حبّ. ولذا ثمة أيدٍ، كأصحابها، ليست أهلاً للحياة. ما دامت لم تفعل شيئاً بحياتها. أتأمل يديه، وأدري تماما أنني أتأمل يدين عرفتا الحياة. حبكتاها، عجنتاها، حدّ الولع. منحتا النساء كثيراً من المتعة. ومنحتهما الحياة كثيراً من الخيبة، التي تبدو واضحة من كسلهما المتعمد. يدان داعبتا.. اكتشفتا..عبثتا.. أشعلتا أكثر من أنثى. وهما تشعلانني الآن خلف دخان سيجارة الصمت. تضرمان النار في أسئلتي. تشعلان حرائق غيرتي. هاتان اليدان اللتان لم يعلق بهما شيء. هل حدث أن تعلقتا بأحد؟ وما اسم آخر امرأة أحبتا؟ آخر امرأة عرّتا؟ ما عمر لذتهما؟ أنا التي تأملته كثيرًا, أدري أنه رجل متعدد الأعمار. ولذا كان بإمكاني أن أسأله "ما عمر عينيك؟ ما عمر شفتيك؟ أو.. ما عمر صمتك يا سيدي؟". ولكنني سألته: -ما عمر يديك؟ ولكنه أجاب دون انبهار واضح بسؤالي: -عمرهما.. عمر خيبتي. قلت: -ولكنني برغم هذا أحبهما. أجاب وهو ينهض فجأة ليقلب الشريط. وكأنه يقلب موضوع حديثنا. -لقد أحببتِ دائمًا عقَدي! لم أفهم ما يعنيه.ولم أحاول التعمق في الفهم. اكتفيت بالوقوف متجهة بدوري نحو المكتبة التي كان بي فضول لاكتشافها، مستفيدة من جهل هذا الرجل لتلك المقولة الجميلة لرولان بارت "على المرء أن يخفي عن الآخرين صيدلية بيته.. ومكتبته!". استدرجتني كثرة كتبها إلى إلقاء نظرة على عناوينها. وكأنني أطالع أخيراً هذا الرجل الذي استفاد من انشغالي بها لينسحب قائلا: -أتوقع أن لا تفتقديني كثيرًا.. لو أنا ذهبت لأعدّ لك قهوة! ضحكت.. أجبته: -طبعا لا.. لا يمكن للكتب إلا أن تقربنا! منذ النظرة الأولى. فاجأتني شساعة المواضيع التي تضمها هذه المكتبة، والتي تفضح ثقافة عالية باللغتين، واهتمامات تاريخيّة وسياسية متشعبة, لم أتوقعها في هذا الرجل. بينما تعجبت لعدم وجود أي كتاب عن الفنون التشكيلية أو عن الرسم، في بيت رسام، تضم مكتبته كتباً متعددة الاهتمامات, تتناول حياة بعض رجال التاريخ والصراع العربي الإسرائيلي، وحتّى السطوة العالمية للشركات المتعددة الجنسية، ولا يوجد للإبداع مكان فيها، سوى في رف سفليّ، تمتد على طوله كتب صغيرة للجيب، ضمن سلسلة الشعر الفرنسي المعاصر. بينها كتاب "أزهار الشرّ" لبودلير و"المركب الثمل" لرامبو.. وآخر لجان كوكتو وشعراء آخرين. كنت أتصفح بعضها بفضول، عندما وقعت على كتاب لهنري ميشو "أعمدة الزاوية". وهو كتاب لم يحدث أن قرأته أو سمعت به. رغم أنني أحببت في زمن بعيد هذا الشاعر. لا أدري أية مصادفة قادتني إلى ذلك الكتاب بالذات. فقد كان، بين ما تصفحته من كتب، هو الوحيد الذي وضع علي هذا الرجل بعض ملاحظاته، وإضافات أو إشارات إلى مقاطع دون غيرها. شعرت وأنا أتصفحه أنني وقعت على المفتاح الذي يفتح سر هذا الرجل. وصدّقت تماما مقولة رولان بارت. فإذا كانت صيدلية بيتنا تفضح للآخرين أمراضنا، فإن مكتبتنا قد تقول لهم أكثر مما نريد أن يعرفوه عنّا. خاصة إذا وقعوا على كتاب شاركنا في مواصلة كتابته على الهامش. كنت ما أزال أتصفحه عندما عاد محملاً بالقهوة. سألته: -أيمكنني أن أستعير منك هذا الكتاب؟ قال دون أن يكلف نفسه مشقّة سؤالي عن عنوانه. -طبعاً! واصل وهو يضع القهوة على الطاولة: -طلباتك متواضعة. كنت أريد لك طلبات أجمل! أجبته وأنا أعيد الكتب الأخرى إلى الرف: -أكتفي بالمتواضعة.. الأجمل لا تطلب! قال وكأنه يتدارك خطأً: -الأجمل يأتي دائماً متأخراً.. يا سيدتي! كان صوته ملامساً لمسمعي. ما كدت ألتفت خلفي حتّى وجدتني على حافة جسده. بيننا مسافة أنفاس وقبلة. ولكنه لم يقبلني. امتدت يده اليمنى نحو شعري، تلامسه مروراً بعنقي ببطء وعبث مثير. ثمّ انزلقت نحو أذنيّ، تخلع عنهما الواحدة بعد الأخرى قرطهما. وضع القرطين على رفّ المكتبة، بتلقائية من تعود أن يخلع عن امرأة أشياءها الصغيرة. وكأنه كان يهيئني لطقوس عشقية. ثم راحت شفتاه تبدآن حيث توقفت يداه. ها هما تعبرانني ببطء متعمد. على مسافة مدروسة للإثارة. تمرّان بمحاذاة شفتيّ, دون أن تقبلاهما تماما. تنزلقان نحو عنقي، دون أن تقبلاه حقاً، ثم تعاودان صعودهما بالبطء المتعمد نفسه. وكأنه كان يقبلني بأنفاسه لا أكثر.