فوضى الحواس3 هو يعرف كيف يلامس أنثى. تماما كما يعرف ملامسة الكلمات، بالاشتعال المستتر نفسه. يحتضنني من الخلف، كما يحتضن جملة هاربة، بشيء من الكسل الكاذب. فأبقى متكئة على الجدار حيث استدرجني منذ البدء، وقد خدرتني زوبعة اللذة، دون أن أسأل نفسي. ماذا تراه فاعلاً بي؟ تراه يرسم بشفتيه جسدي؟ أم يرسم قدري؟ تراه يملي عليّ نصي القادم؟ أم تراه يلغي لغتي؟ هذا الرجل الذي يكتبني ويمحوني بقبلة واحدة, أو حتى من دون أن يقبلني، كيف أقاومه وهو يعبر بشفتيه الممرات السرية للرغبة، ثم يجتاحني بشراسة مفاجئة، يلتهم شفتيّ مبتلعاً كلّ ما كنت سأقوله له؟ أكتشف أنه بدأ الآن فقط بتقبيلي. ممسكاً بي من شعري المنفلت في يده، خالطًا ريقي الممتزج بريقه.. مثيراً لعرقي الذي يطغى على عطره، قاطعاً لأنفاسي التي ضاعت في فمه، حتّى لكأنني أتنفس منه ومعه. كنت أتمنى لو ضمّني إليه كي يمنعني من السقوط. ولكنه كان يتلذذ بانبهار أنوثتي به، حتّى أنه لم يستعمل لضمّي سوى ذراع واحدة. ثمّ كما في قبلة عنقودية.. راح يضع على عنقي قبلات تنازلية متدرجة، متلاحقة، وكأنه يضع نقاط انقطاع عند نهاية نصّ قد يعود إليه ومضى. رحت أستعيد أنفاسي. أتنبه للثوب الذي أتصبب تحته عرقًا، وأنا أراه يخلع جاكيته، يشعل سيجارة، ويجلس على تلك الأريكة لاحتساء قهوته. عاودتني أسئلتي.. وأنا أنظر إليه كما تقرأ غجرية الكف، رحت أقرأ هيأته. بحدسي وحواسي فقط. لا يعنيني اللحظة أن أكتشف ماضيه، بقدر ما يعنيني أن أطالع قدري مكتوباً عليه، قدراً متعب الشفاه، فوضويّ الشعر، كسول الكلمات، مربك اللمسات، مباغت القبلات، متناقض الرغبات، كرجل في الأربعين. يسألني: -فيم تفكرين؟ أجيب: -أحب الرجال في الأربعين يبتسم.. يردّ: -ولكنني لست الرجل الذي تتوهمين! يلقي برماد سيجارته في المنفضة. ويمد نحوي يده: -تعالي.. اجلسي قريباً مني أتردد بعض الشيء قبل أن أعترف: -إنني أتصبب عرقاً. أنا أرتدي هذه العباءة منذ ساعات. أتوقع أن يقول اخلعيها مثلاً. لكنه يقول وهو يسحبني إلى جواره: -أحب رائحتك.. لقد أحببت دائماً لغة جسدك! ثم يواصل وكأنه يطمئنني: -إن جسداً لا رائحة له.. هو جسدٌ أخرس! أقول وأنا أجلس على مقربة منه: -أخاف أن يأتي يوم يصبح فيه جسدي أكثر بلاغة مني! يردّ: -في جميع الحالات هو أكثر صدقًا منك.. فوحدها حواسنا لا تكذب يواصل: -لكن العجيب.. أنّ لي إحساساً ثابتاً بأنني قابلتك في بيت آخر، وقبّلتك في زمن آخر، وأنّ هذه الرائحة أعرفها من ضمة أخرى، وهذا المذاق خبرته في قبلة أخرى.. كيف تفسرين أنّ بإمكاننا أن ننسى الجسد الذي امتلكناه ولكننا لا ننسى الجسد الذي اشتهيناه.. ولم نمتلكه؟ طبعاً لم أكن أملك جواباً لأسئلة كهذه. خاصةً أنني لم أكن أبادله الإحساس بأن هذا قد حدث في زمن سابق. أكتفي بالقول: -جميلة هي هذه الحالة العالية من الرغبة. ثمة بطولة ما، في البقاء على قيد الوفاء.. لِوَهْم! ولكنّه وضع رجليه على الطاولة المقابلة له وقال بشيء من السخرية وهو ينفث دخانه بيننا: -أية بطولة؟ مازلت تأخذين الحياة مأخذ الأدب، لأن الناس يحبون القصص التي تنتهي بخيبة، والتي تكثر فيها المبادئ، ويصمد فيها "البطل" حتى الصفحة الأخيرة، لأنهم في الحياة عاجزون عن الصمود إلى هذا الحدّ.. وأضاف: -انتهى زمن القضايا الجميلة. لقد خذلتنا البطولات في الحياة. فلتكن لنا في الروايات بطولات أجمل. كلّ بطولات الفضيلة.. وكلّ انتصارات الحكمة. لا تساوي شيئاً أمام عظمة السقوط في لحظة ضعف أمام من نحبّ. السقوط عشقاً، هو أكثر انتصاراتنا ثباتاً! يمسك بيدي كأنه يستوقفني يقول: -هذه المرّة.. أريد لنا بطولات بسيطة وجميلة.. في متناول الجميع. كأن تكون لنا أطول قبلة في تاريخ الأدب الجزائري.. ثم يسألني أمام دهشتي: -أتدرين بماذا فكرت وأنا أقبلك منذ قليل؟ قلت بفضول: -بماذا؟ أجاب: -فكرت أنّ الحياة بدأت معنا في تقليد الأدب. كأن الحبّ أومأ لنا، لنواصل في الحياة، قبلة بدأناها في كتاب سابق. كما في تلك الرواية. ها نحن في موعدنا الأول نفسه. نواصل قبلة أمام المكتبة إياها. وأنت تستعيرين أحدها. أحب مصادفة هذه القبلة العابرة للكتب، العابرة لقصّتين. تصوّري روعة قبلة يبدأها رجلٌ وهميّ في كتاب.. ويواصلها في الحياة رجل آخر، تطابق مع الأول حتّى لكأنّه يعرف مذاق شفتي هذه المرأة. في زمن البطولات الخارقة، والصواريخ العابرة للقارات والأقمار العابرة للكواكب... قبلةٌ عابرةٌ للزمن، عابرة للروايات، تظلّ أهم إنجاز قد يفتخر به المرء. أقول: -جميل كلّ هذا.. ولكن لا أفهم لماذا تصرّ على تحطيم هذا الرقم القياسيّ بالذات. عادةً يزهو الرجال بتحطيم أرقام قياسية أخرى! يضحك وكأنّ سؤالي فاجأه. يقول بعد شيء من الصمت وكأنه جمع كلماته استعداداً لمرافعة: -لأن القبلة هي الفعل العشقيّ الوحيد الذي تشترك فيه جميع حواسنا. نحن في حاجة إلى حواسنا الخمس لتقبيل شخص. ولكن لسنا في حاجة إليها جميعها لنمارس الجنس. القبلة تفضحنا. لأنها حالة عشقية محض، لا علاقة لها بالرغبات الجنسية التي نشترك فيها مع كلّ الحيوانات. ولذا، نحن قد نمارس الحبّ مع شخص لا نشعر برغبة في تقبيله. وقد نكتفي بقبلة من امرأة تمنحنا شفتاها من الحمّى، ما تعجز أجساد كلّ النساء على منحنا إياه! تعلو وجنتيّ حمرة مفاجئة. أرتبك لهذه الكلمات التي يتكهرب لها جسدي. ولكنني لا أقول شيئاً، وكأنني أصبحت فجأة أخرى. يرفع عن وجهي خصلة أسدلها الارتباك. يقول: -مارست الحبّ كثيراً.ولكنني الآن أنتبه أنّني لم أقبّل امرأةً منذ زمن طويل، وأنّ عمر لذتي توقف على شفتيك عند الصفحة 172. أوشكت أن أسأله، عن أي كتاب يتحدّث؟ وكيف يذكر رقم الصفحة بالتحديد؟ ولكنني لم أعد أجد لي صوتاً أضيف به شيئاً إلى ما قاله. فأقف وكأنني أبحث عن جواب قد أعثر عليه واقفة. قد يكون أساء فهمي. فقد نظر إلى ساعته وسألني: -متى يحضر السائق؟ أجبته: -إنه ينتظرني عند الخامسة.. في الشارع الخلفيّ. ردّ: -أمامك ربع ساعة. أنصحك بالذهاب. لا أجادله في شيء. فأنا أعرف عادته في قطع موعدنا في لحظته الأجمل. كما ينقطع تيار كهربائي أثناء احتفال. أضاف وكأنه انتبه لشؤون أنساه إياها الحبّ: -الوضع سيء، وقد تحدث مواجهات في الساعات القليلة القادمة بين المتظاهرين والجيش. سألته كمن يبحث عن عذر للبقاء. -لماذا اليوم؟ لماذا الآن؟ قال: -لأن زعيم الإنقاذ خطب اليوم واصفاً الشاذلي بأنه مسمار مزروع في كعب الجزائر لابدّ من اقتلاعه، وأنّ مسيرة من الملتحين تتوجه نحو القصر الرئاسيّ مطالبة بتقديم تاريخ الانتخابات الرئاسية. سألني وهو يرى اندهاشي لهذه الأخبار: -ألا تستمعين إلى الإذاعة؟ قلت كمن يعتذر: -لا يوجد مذياع حيث أنا، ولأنك نصحتني بأن لا أطالع الجرائد. فأنا معزولة عن العالم منذ أسبوعين، في ذلك المصيف. رحت على مرأى منه أجدد هيأتي أمام مرآة. أضع من جديد ذلك الشال على رأسي. أشياء حوله أحسدها. أتركها خلفي وأتجه نحو الباب. استوقفني حاملاً ذلك الكتاب. قال مازحاً وهو يمدّني به: -يبدو لي الآن أنني أتطابق مع خالد في تلك الرواية. ولكن لا خطر من إعارتك هذا الكتاب.. مادام ليس ديواناً لزياد! عجبت لذاكرته، ولغمزته الساخرة، وأدهشني أن يعرف إحدى رواياتي إلى هذا الحدّ. قلت وأنا أطمئنه: -لقد مات هنري ميشو منذ عدّة سنوات. ولا خطر عليك منه! ردّ مازحاً: -لا أدري.. ولكنّني تعلمت أن لا أطمئن إلى قراءاتك! ضحكت. تذكّرت أن في تلك الرواية تستعير البطلة من خالد ديوان شعر لصديقه الفلسطيني زياد، الذي لا ينفك يحدثها عنه وعن شعره بإعجاب. مطمئناً إلى وجوده في الجبهة. ثم يصادف أن يحضر زياد من لبنان لزيارة باريس لبضعة أيام، فتقع البطلة في حب الشاعر وتتخلّى عن الراوي، الذي خسرها منذ بدأت في قراءة ذلك الكتاب. أمام الباب الذي ما زال مغلقاً على سرّنا، ضمّني إليه دون أن يقول شيئاً. وكأنّ ذلك الشال الذي يغطّ رأسي أعادنا إلى خانة الغرباء. افترقنا دون قبلة, دون سلام. كلمات قليلة فقط قالها وأنا أغادر البيت: -أنتظر هاتفك.. اطلبيني حال وصولك لأطمئن إليك.. أجبت بصوت غائب: -سأفعل.. توقفت لأنظر إلى الباب وهو ينغلق خلفي، على لحظة مسروقة من شرعيّة القدر. ونزلت الدرج بخطى سارق يرى في كلّ من يصادفه، عيوناً تشتبه في أمره. وهو نفسه يبدأ بالاشتباه في سعادته، وفي لذة وقد مضت، لم تعد تستحقّ كلّ تلك المجازفة. وفي لحظة حبّ وقد انتظرها طويلاً، وخطط لها عدّة أيام، وإذا بها في لحظة صغيرة، لا تتجاوز ما يستغرقه إغلاق باب من وقت، قد أصبحت خلفه. أجل.. لا أتعس من عاشق يهبط الدرج! أعود إلى البيت سالكة الطريق نفسه، ولكن بخوف أكثر، وحماس أقلّ. تسكنني فسحة غامضة للفرح.. وأخرى للندم. أن تخلو بنفسك ساعتين في سيّارة يقودها سائق عسكريّ يعود بك من موعد حبّ، سالكاً شوارع الغضب وأزقّة الموت، ليس سوى سقوط مفجع نحو الواقع، ووقت كافٍ للندم. يساعدك في ذلك زيّ التقوى الذي تلبسه. وإذا به يلبسك إذا بك تفكر ضدّ نفسك! ولذا ما كدت أصل إلى البيت، حتّى أسرعت بخلع تلك العباءة، واعدتها إلى صاحبتها. عساني أتصالح مع جسدي. منذ قرن، لكي تستطيع الكتابة، تبنّت جورج صاند اسمًا رجالياً، وثياباً رجالية. عاشت داخلها كامرأة. ولأنّ هذا لم يعد ممكناً، فأنا أستعير كلّ مرة ثياب امرأة أخرى، كي أواصل الكتابة داخلها. الأدب يعلّمنا أن نستعير من الآخرين حيواتهم قناعاتهم، وهيأتهم الخارجية. ولكن ليس السطو على أشيائهم الحميمية هو الأصعب. الأصعب عندما نغلق بعد ذلك دفاترنا، ونخلع ما ليس لنا، ونعود لنقيم في أجساد لم تعد تعرفنا، لكثرة ما ألبسناها ثياباً لا تشبهها! أرتدي ثوب بيتي الصيفيّ. وأجلس لأفكر في ما حلّ بي. اللّذة كالألم. تجبرك على إعادة النظر في حياتك، على مراجعة قناعاتك السابقة، بل وقد تذهب بك إلى حدّ سؤال جنونيّ: "ما جدوى حياتك بعدها؟". ثمّة قُبل إن لم تمت أثناءها، فأنت لست أهلاً لأن تعيش بعدها. وفي الحالتين تقع على اكتشاف مدهش: أنت لم تكن قد جئت إلى الحياة قبلها. ..كذلك الذي كان يتطاول على الموت، ويردّ ضاحكاً على خوفي عليه قائلاً "إنني في حاجة إلى أن أموت أحياناً.. لأعي بعد ذلك أنني ما زلت على قيد الحياة". كنت عندما تأتيني الحياة بكلّ هذه المتعة، أخاف أن أعي أنني كنت قبل ذلك في عداد الأموات. قُبلة واحدة، وإذا بي أكتشف الحياة دفعة واحدة. وأكتشف حجم خسائري السابقة. كنت أودّ لو كان بإمكاني أن أملأ هذا الدفتر الأسود. وأنا أصف فقط هذه اللحظة الفاصلة بين عمرين. أن أوقفها. أن أحنطها داخل الوقت. أود لو كانت لي يدا النحات الشهير رودان وموهبته، كي أخلد عاشقين، توقف بهما الزمن إلى الأبد في لحظة شغف، وهما منشغلان عن العالم، ومنصهران في قبلة من حجر. لو كانت لي قدرة بروست في رائعته البحث عن الزمن الضائع على كتابة عشرين صفحة في وصف قبلة واحدة لا أكثر. ألأنّ قبلة بروست لم تحدث حقاً، وانتهت بعد طول السرد على خدّ الحبيبة، استطاع أن يصفها إلى ذلك الحدّ؟ ولأن رودان لم يكن وفيّاً تماماً لكاميل كلوديل النحاتة التي أقامت معه علاقة عاصفة أوصلتها إلى مصحّ المجانين حيث ماتت، أراد منذ البدء أن يعوض عن غيابها الحتميّ في محترفه وفي حياته، بتمثال مربك في عريه يخلد به قبلة لن تتكرر بينهما. هل وعى الخذلان المبكر شرط إبداعي؟ والعودة بسلال فارغة وحدها يمكن أن تملأ كتاباً؟ الجواب عن هذا السؤال لا يعنيني الآن.. وفي جميع الحالات أنا عاجزة عن الجواب عنه. هذه الرغبة التي تسكنني الآن تمنعني من التفكير. تشعلني، تحرق أصابعي. تمنعني من الكتابة. بل ربما كانت أرغمتني على الكتابة، لو لم يكن أمامي هذا الهاتف، الذي يمنحك بأرقام سحرية وجبة حبّ فورية، تجعل من الحماقة الجلوس أمام ورقة لاستحضار حبيب بالكتابة! أتّجه نحو الهاتف، لأطلب ذلك الرجل. وأنا أفكر في ما سبّبه هذا الجهاز من خسارة للأدب. فكم من نصوص جميلة.. وكم من رسائل حبّ لن تكتب، قتلتها كلمة "ألو"! ولكن قبل أن أرفع السماعة، دقّ الهاتف وهزّني. كان زوجي على الخطّ. يحدث لكلمة "ألو" أن تقتل الوهم أيضاً! جمل عجلى نتبادلها، وكأننا نتحدث على بعد قارات. أو كأن الهاتف الذي يتحدث منه ليس مدفوعاً من طرف الدولة. فليكن! إنه دائماً على عجل. وربّما كانت الأحداث حوله هي التي تسرع، ما دام يأمرني بالعودة إلى قسنطينة، بعد غد، على متن الطائرة، لا في السيارة، نظراً إلى تدهور الوضع الأمنيّ في العاصمة. أسأله ماذا أفعل بالسائق. يقول: -ليعد وحده بالسيارة. بعد أن يوصلك أنت وفريدة إلى المطار. لقد حجزت لكما على الرحلة الصباحية. الساعة التاسعة والنصف. أغلق السماعة وأبقى للحظات جامدة. كانت عودتي متوقعة، نظراً إلى حلول العيد بعد ثلاثة أيام. ولكن كنت أتوقع معجزة ما، أو حادثاً طارئاً ما، يجعل زوجي يطلب مني البقاء إلى حين عودة أمي من الحج. وهو ما سيمنحني فرصة لقاء ذلك الرجل ولو مرّة أخرى. فكرة الوقت الذي بدأ بمطاردتي جعلتني أستعجل في طلبه، وكأنني أدخل فوراً في سباق مع الزمن. ستة أرقام.. هاتف يدق دقتين لا أكثر.. وصوت يردّ، وكأنه هنا في انتظاري: -هل وصلت بسلامة؟ -نعم.. وأنت؟ -لم أغادر البيت. فضّلت أن أستفيد من ذاكرة الأمكنة. رائحتك ما زالت تسكن هذا البيت. إنها عقابك الجميل لي. -لم أقصد ذلك.. -كان يمكن أن تفعلي، لو قرأت ما فعلت جوزفين بنابليون، عندما أجبرها على مغادرة القصر. -ماذا فعلت؟ -رشت بعطرها غرفته، بما يكفي لإبقائه خمسة عشرة يوماً محاصراً بها، رغم وجوده مع أخرى. وقبلها كانت كليوبترا ترشّ أشرعة باخرتها بعطرها، حتّى تترك خلفها خيطاً من العطر حيث حلّت. أقول ضاحكة: -حسناً.. سأستفيد من هذه المعلومات للمّرة القادمة. ولكنّه يردّ بعد شيء من الصمت: -لن يكون هناك من مرة قادمة. -لماذا؟ يردّ دون أن يؤثر انفعالي في نبرة صوته: -لأنني مسافر غداً.. -أنت ذاهب إلى قسنطينة؟ -لا.. إلى فرنسا. أصرخ من جديد بعجب: -إلى فرنسا! وماذا ستفعل هناك؟ يجيب ضاحكاً: -ما يفعله الآخرون عندما يسافرون إلى هناك. -ولكنّك.. يقاطعني: -ولكنني لا أشبههم.. أليس هذا ما تعنينه؟ أنا كائن حبريّ أسافر بين دفاترك ومعك فقط. ومن قسنطينة إلى العاصمة.. لا أكثر. وليس من حقّي أن آخذ تذكرة سفر لشخص واحد.. ولوجهة ليست وجهتك. يصمت ثمّ يواصل: -ولكنني لست البطل الذي تتوهمين. أبطالك لا يمرضون ولا يشيخون، وأنا متعب ومريض يا سيدتي. أقول بخوف مفاجئ: -ممّ تعاني؟ يردّ متهكماً، كما لفرط حزنه: -أعاني الوقوف.. لقد قضيت عمري واقفاً، لأنني لا أحسن الجلوس على المبادئ. لا أريد أن أتعمق في فهم ما يقوله. سؤال واحد يعنيني: -ومتى تعود؟ -لا أدري.. أنا رجل عابر. -ولكنني معنية بحياتك.. يجيب ساخراً: -أيّ حياتيَّ تعنيك؟ أصمت لا أفهم ما يقصد. يواصل: -أنا لم أوفق في حياتي. ولذا أصبحت أمنيتي أن أوفق في موتي. أيمكن أن تهدي إليّ موتاً جميلاً.. إذا ما خذلتني الحياة في المشهد الأخير؟ أصرخ: -ما هذا الذي تقوله؟ لقد كنّا منذ ساعات قليلة سعيدين، نتحدث عن الحبّ. ما الذي أوصلك إلى هذا التشاؤم؟ يضحك: -ولكن لأن الحب يعنيك.. لا بد أن يعنيك الموت أيضاً. فالحب كالموت. هما اللغزان الكبيران في هذا العالم. كلاهما مطابق للآخر في غموضه.. في شراسته.. في مباغتته.. في عبثيته.. وفي أسئلته. نحن نأتي ونمضي، دون أن نعرف لماذا أحببنا هذا الشخص دون آخر؟ ولماذا نموت اليوم دون يوم آخر؟ لماذا الآن؟ لماذا هنا؟ لماذا نحن دون غيرنا؟ ولهذا فإنّ الحبّ والموت يغذيان وحدهما كلّ الأدب العالمي. فخارج هذين الموضوعين، لا يوجد شيء يستحق الكتابة. يستدرجني كلامه إلى حالة من التفكير، فأغرق في صمت يقطعه من جديد صوته: -أتدرين بماذا فكرت وأنا أقبلك اليوم؟ -بماذا؟ -فكرت.. أنه إذا كانت كلّ القبل مثلنا تموت، فالأجمل أن نموت أثناء قبلة. -عجيب.. هل تصدق أنني عندما عدت، كتبت على دفتري "ثمة قبل إن لم نمت أثناءها فنحن لسنا أهلاً للعيش بعدها". يسجّل لحظة صمت وكأنه يتعمق في هذه الفكرة أو يتذوقها. ثمّ يقول: -لقد أدركت وحدك.. أنه دون ملامسة الموت. لا توجد حالة حبّ شاهقة بما فيه الكفاية لتسمّى عشقاً. أصمت وكأنني تلميذة تحاول أن تحفظ كلّ ما يلقنها أستاذ. لا برنامج دراسياً له عدا مزاجه المتقلب، وعليها أن تستوعب في يوم واحد، درساً في الرغبة، وثانياً في الموت، وثالثاً في الحبّ، وآخر في فن التخلي عن امرأة، قبلناها بكلّ ذلك الشغف.. ونغادرها بهذا القدر من اللامبالاة! هذا كلّ ما علق في ذهني من هاتفه. لا أذكر أنه قال بعد ذلك كلمة حبّ معينة. أو أنه ترك لي رقم هاتف آخر. أو عنواناً بالتحديد. قال فقط، إنه يحمل معه رائحة الوقت المسروق. وأضاف معتذراً أنه يريد أن ينام ليستريح استعداداً للسفر. وفهمت أنه سيكون بإمكاني أن أطلبه غداً، حين أستيقظ، لنتحدث مرة أخيرة في هذه التفاصيل. ولكن في اليوم التالي، كانت الساعة السابعة صباحاً. كنت أستيقظ من ليلة مضطربة، عندما طلبت ذلك الرقم وأنا نصف نائمة. كان الهاتف يدقّ بطريقة شبيهة بالبكاء.. ولم يكن ثمة من أحد ليوقف بكاءه على الطرف الآخر للذاكرة. إنها ملهاة الحبّ الدائمة التكرار. الآن فقط، يمكن للصمت أن يبكي. حتمًا ــــــــــ نأتي الحب متأخرين قليلاً، متأخرين دومًا. نطرق قلبًا بحذر، كمن مسبقًا يعتذر، عن حب يجيء ليمضي.بصيغ مغايرة، يعيد الحب نفسه، ببدايات شاهقة لأحلام.. وانحدارات مباغتة الألم. وعلينا أن نتعلم كيف ننتظر أن يوصلنا سائق الحب الثمل إلى عناوين خيبتنا. حتمًا.. نضج الحلم. ولكن الزمن هو الذي لم يستو بعد. فما جدوى أن يبلغ القلب رشدًا سريعًا؟! جاء العيد.. ولقسنطينة عيد آخر. أعود إليها بقلب متعدد الانكسارات. ها أنا أنهض من تحت أنقاض الحلم. أتنفس من تحت ركام هائل من الأوهام. وهاهي تفاجئني بوجه لا أعرفه . وقد تراكمت فيها القمامة على امتداد الشوارع بعد أن أضرب فيها عمّال البلديّة والتنظيفات الذين صادر الإسلاميون شاحناتهم المخصصة لنقل النفايات، لإرغامهم على الإضراب المفتوح.. مما جعل القطط هي المحتفلة الوحيدة بالعيد. أستعجل العودة إلى بيتي. حيث أنا لا شيء يصلني سوى ضجيج المدينة التي تستعدّ لفرحها..و"ثغاء" الخرفان التي تنتظر فجرًا موتها. أكره الأعياد. وهذا العيد كان أكثر الأعياد حزناً. كان عيد الغياب. انتابني هذا الإحساس، وأنا أستيقظ ذلك الصباح، فلا أجد أحداً في البيت لأعايده عدا الشغّالة. ولا أحد يمكن أن أطلبه على الهاتف، عدا زوجة عمّي أحمد التي زادني سماعها حزناً. وأيقظ إحساسي بالذنب تجاهها. زوجي كان قد غادر البيت باكراً. تحسّبًا لمظاهرات أو لأحداث طارئة قد تحدث بعد صلاة العيد. فريدة ذهبت كعادتها لقضاء العيد مع أهلها. " مّا " لم تكن قد عادت بعد من الحجّ.. وناصر لم يكن في البيت ليردّ على هاتفي. والخرفان نفسها التي كانت في البيت، لم تعد هنا. ولم يبق منها سوى آثار دمٍ على الأرض، وجثّة معلقة يتسلى الجزار بسلخ جلدها. ماذا يفعل الناس صباح عيد الأضحى غير الانقضاض على لحوم الخرفان سلخاً وتقطيعاً.. وتقسيماً. فهنا لا يمكن لأحد أن يتصور عيد الأضحى دون أضحيّة. مهما كانت إمكانيّاته الماديّة، أو نوع البيت الذي يسكنه. ولذا تعودت أن أراهم صباح العيد مسرعين جميعهم: الرجال نحو الذبائح..والنساء نحو المطابخ، يقسّمن أجزاء الشاة حسب حاجتهنّ ويتصدقن بما زاد عنهنّ. هذا العام أتوقع أن تكون الحاجة إلى الصدقات قد زادت، بعدما تجاوزت أسعار الخروف، العشرة دينار جزائري. وهو ما جعل أضحية العيد تفوق ثمن الإنسان نفسه،الذي لا يكلّف هذه الأيام أكثر من رصاصة.. أطلب زوجي على الهاتف لأعايده. أشعر أن هاتفي يفاجئه وربما يسعده. أسأله إن كان أرسل شيئًا إلى بيت عمّي أحمد.. يقول أنه نسي ذلك، نظراً إلى مشاغله. أجيبه أنني سأتكفل بالأمر. وقبل أن أواصل كلا مي يدق في مكتبه هاتف آخر.. ويتوقف بيننا الكلام. أطلب من السائق أن يأخذ نصف الشاة إلى بيت ذلك المسكين. ثمّ ألحق به.. وأطلب منه أن يوصلني قبل ذلك إلى المقبرة. لم يحدث إلاّ نادرا أن زرت قبر أبي صباح العيد. كنت أحب أن أذهب إليه وحدي. كما نذهب إلى موعد حبّ. أكره أن أزوره في المناسبات. ربما من كثرة ما تقاسمته مع الآخرين، كتلك المرات التي أعبر فيها شارعاً أو مدرسة تحمل اسمه، فأشعر باليتم يجتاحني، ويكاد يغطي على زهوي بحمل الاسم نفسه. كان بيني وبين هذا الرجل، الذي يقيم تحت هذا الرخام، تواطؤ ما. ولذا صنعت له ضريحاً صغيراً داخلي، لا علاقة له بوجاهة مقامه هنا، ضريحا كان يكبر معي سنة بعد أخرى. وإذا به في غيابه، أكبر مما حولي من أحياء. كنت أجلس إليه بين الحين والآخر، كما تجلس النساء إلى ضريح الأولياء، يشكون همومهن،ويستنجدن ببركات الأموات على مصائب الحياة. وأحيانًا أغلق على نفسي باب غرفتي. وأفتح له ذاكرة حزني وأخطائي. وأدعوه إلى الجلوس على طرف سريري. أقص عليه بعض ما حلّ بي. أستشيره. وأتوقع أجوبته. وعندما لا يأتي جوابه، وتبقى صورته صامتة، أجهش بالبكاء. أخاف أن أكون قد قلت له الكثير عني. أخاف ألا أكون عند حسن ظنه. فلا أصعب من أن نبقى عند حسن ظن الأموات. اليوم أيضًا، ككل المرات التي كان يضيق بي فيها القدر، وتخذلني الحياة، تقودني خطاي نحو هذا الشبر من التراب ، أنبش فيه عن جواب لأسئلتي الكثيرة. ولكني هذه المرة لم أعثر على جواب. وإنما عثرت على ناصر، وهو يهم بمغادرة المقبرة. ومما زاد من اندهشي، ألا تكون زيارة قبر أبي في الأعياد إحدى عاداته. بل نقلت لي أمي منذ مدة ، أنه أفتى لها بأن زيارة القبور والأضرحة غير مستحبة. وكعادتي، لم أجادله في معتقداته، ولا في وجوده هنا ، حيث لم أتوقعه.. كالعادة. اكتفيت بإبداء اندهاشي لوجوده، وفرحي بلقائه. ولكنني لم أمنع نفسي وأنا أقبله، من أن أسأله عن مظهره الذي بدا لي قد تغير، دون أن أتمكن من معرفة ما تغير فيه بالتحديد. رد بشيء من السخرية: _لقد فقدت كثيرًا من وزني في الفترة الأخيرة.. ثم أضاف: _كي لا أفقد معتقداتي! لم أفهم ما يعنيه. أجبته بلهجة فرحة: _هذا أفضل.. أنت تبدو أكثر شبابًا هكذا.. أجاب بالسخرية نفسها: _وواش اندير بشبوبيّتي..؟ هوذا كعادته ، يستدرجني إلى موضوع لن يكون من السهل الخوض فيه. كتلك المرة التي طلبت منه فيها، منذ سنوات أن يأخذ الساعة الجدارية لإصلاحها، لأنها تتأخر عدة دقائق كل مرة، ولكنه رد هازئًا: _ روحي.. يا بنتي روحي، إحنا رانا عايشين متأخرين على العالم بقرن. وأنت قاعدة عقاب الساعة، تحسبي لي في الدراج والدقائق. قرن كامل ما قلقكش.. وقلقوك الدقائق. حتى الراجل إذا نديها لو يموت من الضحك.. في هاذ البلاد.. الناس ما يأخذولو ساعة غير لما تحبس! أتفادى الدخول معه في جدل سيهزمني فيه لا محالة. لأنه يرد على منطقي في الحياة، بمنطقه في معايشتها. وهو ما يجعل الحق دائمًا إلى جانبه. أقول كمن يعتذر: _كنت على سفر. ولم أعد سوى منذ يومين. طلبتك هذا الصباح لأعايدك.. ولكنني لم أجدك. ردّ: _أنا لا أقيم في البيت. كلنا على سفر كما ترين، وحدهم الأموات أصبح لهم عنوان ثابت هذه الأيام! يواصل بعد شيء من الصّمت: _لأنه لم يعد لهم من شيء يخافون عليه.. أو يخافون منه. أسأله مستفيدة من هذا السياق: _وممّ أنت خائف؟ يرد بثقة وكأني وجهت إليه تهمة: _من الله.. من الله وحده. أرد: _كلنا نخاف الله.. يجيب: _كيف يخاف الله من يطيع أعداءه؟ أصمت. لا لأنني لا أقدر على جوابه. ولكن لأنني أجد جدلنا هذا، أمام مقبرةٍ ذات عيد، ضربًا من الجنون. فنحن لم نأت هنا لنتناقش ولا لنتشاجر. جئنا لنقرأ الفاتحة على قبر والدنا، وهاهي ذي السياسة تطاردنا الآن في كل مكان، حتى في أسرتنا، وحتى في دفاترنا، وحتى في المقابر. أقول: _ناصر خويا.. الناس تلتقي اليوم لتتعايد، وتتصالح، وتتسامح،وأنت لا أكاد أسلم عليك حتى تنفجر في وجهي.. كن أخي ولو صباح العيد. يقول متذمّرًا: أي عيد؟ أنظري حولك القبور كلها جديدة، كلها طريّة، تستقبل كل يوم دفعة جديدة من الأبرياء. _وما ذنبي أنا؟ _ذنبك.. أنك تقتسمين مع الشيطان بيته وسريره. أرد: _لا أدري إن كان هذا الرجل ملاكًا أو شيطانًا. لا أعتقد أنه يختلف عن الآخرين، سوى بكونه ضابطًا ساميًا تقع على أكتافه مسؤوليات الدفاع عن الوطن، هذا الوطن الذي أؤمن به أكثر من إيماني بالملائكة.. والشياطين. _ولا يزعجك أن يحتضنك بيدين ملطختين بالدم؟ بتعليمات منه يسجن الأبرياء، وتمتلئ هذه القبور، ما فائدة ما تعلمته إذن، عن حريّة الناس في اختيار مصيرهم؟ _ما تعلمته لم يفدني في شيء. ولا حتى في اختيار مصيري، فكيف تريد أن أقرر مصير الآخرين؟ ثمة أكثر من ستين حزباً معترفاً بها رسميًا. ومهمتها تمثيل الشعب، والدفاع عن اختياره. أما أنا فلا يوجد حزب ليدافع عني. وحتى أنت.. لم تسألني قبل اليوم عن رأيي في شيء، فلماذا تعجب أن لا يكون لي اليوم رأي؟ يصمت. وكأنه لا يجد ما يقوله، أو لا يجد جدوى من الكلام. يستعيد لهجة أكثر حناناً. ويقول وكأنه يودعني سراً. -حياة.. انخاف عليك أتمتم: -من واش؟ يجيب: -من كلّ شيء! أرد بالحنان نفسه: -لقد خفت عليّ دائماً من كلّ شيء. يجيب: -ولكن هذه المرة أدري تمامًا ما أقول. أتركي هذا الرجل، اطلبي منه الطلاق ما دام ليس لك أطفال منه. أبتسم ثم أضحك لكلامه. يسألني عاتباً: -ما الذي يضحكك؟ أقول: -تذكرت "ما" لو كانت هنا وسمعتك تنصحني بالطلاق لجنّت. هي التي تعتبر زواجي من هذا الرجل أكبر مفاخرها. يردّ: -لا تهتمي بأمي. إنها تعيش حياة مستندة إلى حقيقة واحدة (الآخرين). في الواقع هي تستند إلى جدار من الوهم الكبير. استندي إلى الله في أي قرار تتخذينه فهو لن يخذلك. أقول: -لقد استندت إليه دائماً.. وإلى هذا القبر. وقدري نتيجة هذا. وكنت أتمنى أن تكون أنت أيضاً سندي. إنك كلّ ما أملك في هذه الدنيا. ولكن ها نحن كالغرباء نلتقي مصادفة في المقابر.. لا تطلبني ولا تزورني، وعندما أزورك لا أجدك. يقاطعني بشيء من المرارة: -ذات يوم.. لن تجدي صعوبة في العثور عليّ. سيكون لي أخيراً عنوان ثابت هنا. أصرخ: -ما هذا الذي تقوله.. أجننت؟ يقاطعني: -الموت أقرب إلينا مما تتوقعين. أتريدين أن أدلك على قبر لصديق، قتل منذ أيام دون مبرر، سوى لأنهم اشتبهوا في أمره، وهو يضع يده في جيبه ويوشك أن يخرج منها شيئًا، على مقربة من شرطيّ. عندما قتلوه، اكتشفوا انه لم يكن يحمل في جيبه شيئاً. تصوري: الآن بإمكانك أن تموتي لا بسبب جريمة ارتكبتها، وإنما لأن هناك افتراضاً أن تكوني مجرمة. حسب المكان، أو الزمان، أو الهيئة التي يصادف أن تكوني عليها وقتها. أي أننا جميعاً متهمون مفترضون. يكفي أن تتوافر فينا إحدى هذه المصادفات.. وتتطابق مع "أعراض إرهابية"! أقول: -لا أطن أن أحداً يحب إيذاء الآخر، أو قتله لمتعة القتل. ولكن كلّ واحد أصبح يعتقد أنه إن لم يكن القاتل، فسيكون القتيل. إنها قضية ثقة. لقد فقدنا الثقة ببعضنا بعضاً. إنه زمن الانجراف نحو الشر. يجب أن لا ننساق فيه إلى ركوب هذا القطار المجنون. الحياة جميلة يا ناصر، صدقني.. يكفي أن نضع فيها شيئاً من الحب. يصمت ناصر. ثم يحتضنني ويقول: -أحياناً أتمنى أن أشبهك -وأنا أتمنى دائماً أن أشبهك. لقد باعدتنا الحياة أحياناً. ولكن لن يفرقنا شيء. أليس كذلك؟ يجيب: -لا.. لن يحدث هذا. يمشي خطوات ثم يعود، وكأنه تذكر شيئاً. أو كأنه قرر أن يقول لي شيئاً، تردد في قوله. يهمس: -حاولي أن تأتي لزيارتنا في البيت خلال اليومين القادمين. إنّ أمي ستعود بعد غد من الحج. إنني أنتظر عودتها لأسافر. وأود أن أودّعك قبل سفري. أسأله دهشة: -تسافر إلى أين؟ -سأقول لك هذا في ما بعد. لا تخبري أحداً بهذا الأمر. ما يكاد يختفي، حتى أجلس منهارة عند أقدام ذلك القبر. ويفاجئني البكاء. أيّ زمن هذا الذي أصبح فيه الإخوة، يلتقون فيه مصادفة في المقابر صباح العيد. فيتشاجرون ويتصالحون على مسمع من الموتى. ثمّ يفترقون، دون أن يدروا متى سيكون لقاؤهم القادم.. وفي أي عالم! * * * أنا التي ذهبت يومها أبحث عن أجوبة، عدت بأسئلة أكثر، بعد أن قضيت نصف نهاري في مواساة عائلة عمي أحمد، والنصف الآخر في مواساة نفسي، عن رجال لا يأتون إلا ليرحلوا، ولا يسلمون علي إلا ليودعوني..ولا يتحدثون إلي إلا ليضعوا الموت طرفًا ثالثًا بيننا. أثمّة في هذا البلد، عدوى انتشرت بين الرجال.. جعلتهم جميعهم يتكلمون الكلام نفسه، ولا يحلمون سوى بالرحيل؟ في المساء، جلست لياقةً لأشارك زوجي العشاء. في الواقع، كنت قد قررت منذ أيام أن لا آكل شيئًا من لحم تلك الخرفان، التي ظلت رؤوسها ترتجف لعدة أيام، بسبب ما عانته من دوار البحر، لقضائها شهرًا ونصفًا، محشورة في الطبقات السفلية لباخرة. زوجي كان مرهقًا بدوره إلى درجة لم يلحظ معها غياب شهيتي. تبادلنا أحاديث عاديّة، عن أشياء عامة دون تحديد. وما أنهى عشاءه حتى رأيته يتجه نحو غرفة النوم ويخلع ثيابه. وكأنه يخلع عبئًا كان يحمله طوال النهار. ويلقي بنفسه على السرير. قلت له وأنا أعلق ثيابه على المشجب: _كنت أتمنى لو قضيت هذا اليوم معي.. لا أفهم لماذا لا بد ان تقضي كل الأيام في مكتبك ..حتى الأعياد. أجابني: _إذا قضيت معك العيد، فمن يضمن الأمن في مدينة يتجاوز عدد طلابها في جامعة واحدة 23 ألف طالب. أما مساجدها فلا أحد يعرف عددها.. إنها تنبت كل يوم.. قلت: _كنت أقصد أننا لم نعد نلتقي أبدًا. حتى العطل والأعياد، أصبحنا نقضيها كل على حده. أوصلني هذا السياق إلى ناصر. تذكرته وتذكرت حديثي معه. احتفظت بمشروع سفره لنفسي. ولكنني وجدتني دون تفكير أخبر زوجي بلقائي به هذا الصباح في المقبرة، برغم علمي أن زوجي يتحاشى الحديث عنه، وكأنه يبادله مشاعر الكراهية نفسها. ولكنه فاجأني هذه المرة، وهو يقول بشيء من الارتياح: _حسنًا أن تكوني قد التقيت به.. ثم يضيف: _كيف وجدته؟ أعجب لسؤاله.. أجيب: كالعادة.. ربما نحف بعض الشيء، ولكنه بصحة جيدة. يسألني : _ألم يخبرك بشيء؟ أصمت. أرتبك. يذهب فكري إلى كل الاحتمالات. تراه يعلم بمشروع سفر ناصر؟ أكان هناك من يتنصت أثناء حديثنا؟ ولكنني لم ألحظ أحدًا. وماذا لو كان يستدرجني ليعرف مني ما يجهله؟ أجيب: _لا.. لم يخبرني شيئًا، عدا أن أمي عائدة بعد غدٍ من الحج.. كي أستعد لاستقبالها. يسألني وهو يصلح من جلسته مستندًا على السرير: _ألم يخبرك أنه اعتقل؟ أصرخ دهشة: _اعتقل؟ لماذا؟ ومتى حدث هذا؟! _أثناء غيابك. لم أشأ أن أخبرك بذلك حتى لا أشغل بالك. أصاب بحالة ذهول. أهو منخرط في تنظيم خطر؟ هل وجدوا في حوزته وثائق أو أسلحة؟ ولكن من المؤكد أنهم لم يعثروا على حجة كافية لإدانته، و إلا لما كانوا أطلقوا سراحه. أسأل: _ماذا فعل؟ يجيب: _إن كثيرًا من الشبهات تدور حوله، لإقامته علاقات مع جهات أصولية.. أجبت بعصبية: _ولكن أن يتعاطف مع هؤلاء لا يعني أنه إرهابي. لا يمكن لناصر أن يحمل السلاح ليقتل أحدًا. أنا أعرف أخي. يقاطعني بلهجة صارمة: _إن أخاك يتكلم كثيرًا . ولولا لسانه لوفر عليّ وعليه كثيرًا من المتاعب. إنه يعتقد أن الاسم الذي يحمله يمنحه حصانة. ويعطيه حق شتم السلطة وتحريض الآخرين. لقد تدخلت هذه المرة لإطلاق سراحه، ولكن لا يمكنني أن أفعل هذا دائمًا. نحن نعيش حالة من التوتر الأمني يجب ألا يكون فيها استثناءات حتى لأقرب الناس إلينا.. لابد أن تشرحي له هذا! ماذا أشرح لناصر؟ أنا التي لم أتوقع أن خبر سجنه سيحرك فيّ كل ذلك الوحل. تركت لزوجي فرصة استعراض قوته أمامي، وإشعاري بأني مدينة له بالكثير. لم تكن عندي رغبة في الدخول معه في أي جدل، ولا كنت مستعدة لأن أنهي يوم العيد بالتشاجر مع زوجي.. وقد بدأته بالتشاجر مع أخي. رأيته فجأة يغرق في نوم عميق. فلم أملك إلا أن أنزلق جواره. وأحاول بدوري أن أنام مذهولة من أمري. لا أدري كيف مات غضبي. الآن فقط اكتشفت أنه مات. وأنني فقدت ذلك الحريق الجميل، الذي كثيرًا ما أشعل قلمي وأشعلني في وجه الآخرين. ألا تكون لك قدرة على الغضب، أو رغبة فيه، يعني أنك غادرت شبابك لا غير. أو أن تلك الحرائق غادرتك خيبة بعد أخرى. حتى أنك لم تعد تملك الحماس للجدل في شيء. ولا حتى في قضايا كانت تبدو لك في السابق من الأهمية، أو من المثاليّة، بحيث كنت مستعدًا للموت من أجلها! كانت عودة أمي من الحج، هي كل ما يعنيني الآن . ولا أدري أي شعور بالتحديد جعلني أستعجل لقاءها: شوقي إليها؟ أم حاجتي إليها؟ أم رغبتي في لقاء ناصر، ومعرفة ما يخبئ لي من مفاجآت؟ وأنا التي تعودت رؤية أمي ذاهبةً أو عائدة من الحج، لم يفاجئني جلوسها في الصالون بزيها الأبيض، وغطاء رأسها الأبيض إياه. بقدر ما فاجأني وجودها لمرة دون حاشيتها من النساء، اللاتي يودعنها ويستقبلنها في كل ذهاب وإياب. ولذا سعدت بالانفراد بها.. وربما الالتصاق بها، وكأنني أسرق منها بعض بركاتها، قبل أن تعود امرأة عاديّة. لا تكاد تراني حتى تبادرني بالسؤال: هيأتك لا تعجبني.. هل بك شيء؟ أرد: _لا تواصل: _لم تستفيدي من سفرك إلى العاصمة.. لقد عدت أكثر شحوبًا.. ربما البحر لا يناسبك. أرد: _بلى هو يناسبني.. ولكن هذه المدينة هي التي تتعبني. فتعود إلى حديثها عن الحج، وقد اطمأن بالها أخيرًا لعدم وجود مشاكل في غيابها. تحكي عن الحرارة التي لا تطاق هذا العام في مكة.. وعن الحجيج الذين ماتوا دعسًا.. وعن الدينار الجزائريّ الذي انهار.. وعن أسعار الذهب التي ارتفعت.. أستوقفها: _"مّا" .. هل رفعت لي دعاءً هناك؟ تجيبني متعجبة: _طبعًا يا ابنتي.. إنني أفعل ذلك دائمًا.. أقاوم رغبة جارفة في البكاء، وكأنني كنت أنتظرها لأنهار باكية. ولكنني لا أفعل؛ أواصل الاستماع إليها تحكي.. وأنا سرًا أبكي. أثناء ذلك، تحضر إحدى الجارات ثم نساء أخريات. فأتركها لهن. وأذهب نحو ناصر.. كعادتي. أحب ناصر في صمته. في رجولته الموروثه من قامة أبي وملامحه. واليوم بالذات يبدو لي أكبر من عمره. أحسه رجلاً فوق العقد، فوق الشبهات. إنه لا يشترك في شيء مع أولئك الذين وجدوا في الأصولية حلاً لكل عقدهم الرجالية، أو مشاكلهم الأرضية. ووجدوا في تطرفهم ردًا على عجز عاطفي.. أو انتقامًا لذاكرة طبقيّة أو تنفيسًا عن عقدة وطنيّة. لقد أثار هذا الطريق تاركًا كل شيء خلفه، بينما لحق ب الآخرون، لأنهم لم يكونوا يملكون شيئًا ليخسروه! كان بإمكانه الحصول على أية بنت، وأية وظيفة، وأية ثروة، ولم يفعل. ولا أدري أين كان يجد ثروته الداخليّة. ومع أية قضية تزوج سرًا. إلى أي بلد كان يهاجر كل يوم، وهو جالس يحتسي قهوته بتذمر صامت، وأمي تحثه كل مرة على الكسب، واغتنام الفرص التي تتاح له وتستفزه بمقارنة حياته بحياة من هم أدنى منه، ونجحوا في حياتهم. نجحوا في الحياة؟ في الواقع لا. هي تقصد من نجحوا في اختصار مشقة الحياة، ناهبين البلاد حيث وجدوا، مشهرين غنائمهم دون خجل، رافعين في بضع سنوات فيليات شاهقة، تقف عند بابها سيارات فخمة. وتسكنها امرأة تسافر إلى أوروبا في كل المناسبات لتجدد خزانتها. لم تكن تعي أنها كانت تعمق فيه الشعور بالخيبة، ولا تحثه سوى على المزايدة عليها. وكنت أراه يومًا بعد آخر يفقد صوته بالرد عليها، ويفقد أناقته، وكأنه أضرب عن الحياة وعن الأناقة، لأن الوطن لم يكن في أناقة أحلامه! أكان يدخل هو أيضًا حزب الصمت، ويخلع صوته، تمامًا كما خلع الآخرون فجأة شعاراتهم، وحلقوا قناعاتهم، خوفًا من سجن يتربص بالملتحين. جاء زمن شفرات الحلاقة إذن_أخيرًا أصبحت متوافرة_ نزلت الأسواق، مع نزول مفاجئ في القيم، وفي قيمة الإنسان. فهل هذا زمن الوطن التنازلي؟ نزلت ،ومعها نزلت الشعارات على الجدران، تعلن بدء الزمن الصعب. وامتلأت السجون بالملتحين..وبأولئك الذين أخذوا خطًأ بين نارين..كما في كل حرب. أسأله بنبرة منخفضة: _أيجب حقًا أن تسافر يا ناصر؟ وهل فكرت في ما سيحدث لأمي في غيابك؟ يجيب: _إني أسافر كي أعود. ولكن إن بقيت فقد تخسرونني. أقول هذا الكلام لك. أما أمي.. فسأغافلها وأمضي بخديعة جميلة نحو قدري. ستتحمل غيابي أكثر من تحملها خبر سجني أو موتي. _ولكن هل هذه الخيارات محدودة حقًا إلى هذا الحد؟ _طبعًا..لقد انتهى ذلك الزمن الوديع في خيباته. جاء زمن السجون.. والموت المباغت.. والاغتيالات الملفقة. أقول: _لقد أبلغني زوجي أنك اعتقلت أثناء غيابي. يقاطعني: _وأبلغك أيضًا أنه تدخل للإفراج عني. _وهل هذا غير صحيح؟ _نعم..ولكنها مراوغة سياسيّة متعددة الأهداف. إنه من جهة يجعلني مدينًا له بهذه الخدمة، ومن ناحية أخرى يثير حولي الشبهات، ويجعل رفاقي يشكون في مصداقية معاداتي للسلطة. مادمت لم أسجن سوى يومين ويبقون هم هناك لعدّة أشهر ، وربما لسنوات. ثم..إن يطلقوا سراحك فهذا لا يعني سوى بدء مشاكلك، خاصة مذ بدأوا بإطلاق سراح كل من يزعجهم، كي يتمكنوا بعد ذلك من قتله خارج السجن، تحت ستار الموت العشوائي. فماذا بقي لي من اختيار سوى الرحيل؟ استمعت إليه، كمن لا يصدق أمرًا لفرط غرابته، أو كمن يرفع الغطاء خطأ أمامك عن صندوق قمامة، دون أن يعتذر لك عن عفونة أحلامك.. التي كنت أودعتها مكانًا "آمنًا" أسميته الوطن! فجأة، لم تعد لي من رغبة سوى الهروب به إلى أي بلد آخر.. أو أي قارة أو كوكب آخر، ريثما يمر قطار الجنون. أنا التي لم أقتنع يومًا بمنطق رجل يتركني ويسافر. اقتنعت بمنطقه في مغادرة الوطن. ووجدتني ألفق معه أكاذيب وحججًا لإقناع أمي بذلك. عدت يومها محملة بقبل ناصر.. وتعليماته. أما أمي فقد حملتني بعض ما أحضرت لي من هدايا. وعلى رأسها (ماء زمزم) ، الذي تعودت أن تأتيني به في كل حجة، تحسّبًا لذلك اليوم الذي قد أحبل فيه.. وأستنجد به عندما أضع مولودي! في انتظار ذلك، أنا حبلى بذلك الرجل. إنه الشيء الوحيد الذي يكبر داخلي كل يوم. وإذا به يومًا بعد آخر يغطي حتى على رحيل ناصر، وعلى خيباتي الأخرى. ولا أفهم أن يستطيع هذا الرجل أن يفعل بي كل هذا، وأن يواصل برغم كل ما يحدث حولي من مآسٍ، الإقامة داخلي، ومنعي من التركيز على أي شيء عداه. أكثر من كلماته، علقت بي رائحته الممتزجة بعطرٍ ما. وبرائحة تبغٍ ما. وبرائحة عرقٍ ما. لتشكل كلها هذا الحضور الذي يوقظ حواسي، والذي لا اسم له، أو ربما كان اسمه: هو. وأذكر أن ديدرو الذي وضع سلمًا شبه أخلاقي للحواس، وصف النظر بالأكثر سطحية، والسمع بالحاسة الأكثر غرورًا، والمذاق بالأكثر تطيرًا، واللمس بالأكثر عمقًا. وعندما وصل إلى الشمّ. جعله حاسة الرغبة، أي حاسة لا يمكن تصنيفها، لأنها حاسة يحكمها اللا شعور، وليس المنطق. المخيف مع هذا الرجل. أنه جعلني أكتشف حواسّي. أو على الأصح، خوفي النسائيّ من هذه الحواس. بل إنه وضعني في حالة من فوضى الحواسّ أخاف أن يأتي يوم، لا أستطيع معها أن أصفه، أو أن أتعرف إليه، بعد أن خرجت معرفتي به عن المنطق. ولذا قررت يومًا التفرغ لمطالعة ذلك الكتاب الذي أحضرته معي لهنري منشو، والذي وضع جوار مقاطعة إشارات أو ملاحظات. وكأنني وقد فشلت في اكتشاف ذلك الرجل في الحياة، رحت أحاول اكتشافه داخل سطوة حضوره. بهدوء من يطالع رجلاً في كتاب. أن تعيش مأخوذا بلغز رجل غامضٍ حد الإغراء، وحد الإزعاج أحيانًا، قد تكون فرصتك في كتابة رواية جميلة. هذا إذا كنت روائيًّا. أمّا إذا كنت عاشقًا، فسيكون في لغزه عذابك ولعنتك. ذلك أن الحب سيحولك رجل تحرٍ. حتى ليكاد يصبح التحري مهنتك الأخرى. ككل عاشق، أنت تريد أن تعرف كل شيء عنه. تريد معرفة ماضيه وحاضره، وأسماء من أحب ومن أحبوه، عناوين البيوت التي سكنها، والمدن التي زارها، والمهن التي مارسها، والأماكن التي يرتادها. تطارده بالأسئلة لتعرف برجه، وهوايته، وانتماءاته.. حتى إنك قد تعود بكتاب من مكتبته، فقط لمتعة التجسس على قراءاته! إن في الحب كثيرًا من التلصص والتجسس والفضول. والأسئلة لا تزيدك إلا تورطًا عشقيّاً. وهنا تكمن مصيبة العشاق! سؤالي الأول كان. مالذي أوصل هذا الرجل إلى هنري ميشو؟ ولماذا اختار هذا الكتاب ليسجل عليه خواطره؟ ولم أجد من جواب سوى كونه كان رسامًا أيضًا. وعندما أصبح السؤال، كيف يمكن أن أفهم رجلاً من خلال شاعر وهو نفسه غامض. حتى إنه كان شاعر الأسئلة التي لا تفضي سوى إلى أسئلة أخرى. وكل حياته كانت مبنية على الانتهاكات الدائمة لوجاهة الحياة الظاهريّة فقد ظل يرفض الجوائز الأدبية، ويرفض أن تؤخذ له صور فوتوغرافية، ويرفض أن تصدر كتبه في طبعات شعبية، بل ظل يتمنى لو أصدر من كل كتاب له خمس نسخ فقط. ولم يفارقه طوال حياته إحساس دائم بالعبثيّة، يتّضح منذ الفكرة الأولى: "في ردهة روحك، ظنًّا منك أنك تجعل من الآخرين خدمًا لك، تكون على الأرجح أنت من يتحول بالتدريج خادمًا. خادم من؟ خادم ماذا؟ إذن فابحث، ابحث" على هامشها كتب: " لا تبحث.. ستضع ذكاءك في خدمة الجنون" ثم خاطرة أخرى: " في غياب الشمس تعلم أن تنضج في الجليد" وأضاف باللون الأزرق أسفلها " أو في جريدة!" . ثمّ: "إذا كنت الإنسان المقدم على فشل.. فلا تفشل كيفما كان" وواصل القلم " أما إذا كنت مقدمًا على الموت فلا تهتم!". أن يطالع أحد هواجسك في كتاب، تركت عليه بعض آرائك، أو علّمت على بعض جمله، كأن يطالع شخصيتك في حقيبة يدك. أو يتلصص عليك من حيث لا تتوقع . الأشياء الحميمة، نكتبها ولا نقولها. فالكتابة اعتراف صامت. ولذ أشعر بشيء من الحرج أمام كتاب لم يكن مهيأ لي. بل لا أفهم، كيف تجرأ ذلك الرجل على إعارتي إياه دون تردد. وإذا بي أقرأ الكتاب قراءتين ، في وقت واحد. أحب تلك النصوص التي تكتب بقلمين. والتي تشبه في وقعها تلك الموسيقى التي تعزف على البيانو بأربع أيدٍ، وبتناوب عازفين. كهذه الخاطرة التي تبدأ بعزف منفرد على إيقاع "هنري ميشو": "في استطاعتك أن تكون مطمئنا.لا يزال فيك بعض نقاء . في حياة واحدة .. لم تستطع أن تدنس كل شيء ! " ويدخل العزف الآخر.ليضيف بنوتة مفاجئة " أحقا " . أو هذه التي تأتي كما في عنف "بيرليوز" في سمفونيته المدمرة "ما الذي تهدمه عندما تكون هدمت ما أردت هدمه: السد المنيع لمعرفتك الخاصة ؟" . وترد أصابع واثقـة.. بقلم أزرق "بل جدارا اسمه الخوف ". ثم ينغلق البيانو . ويواصل القلم الأزرق بصمت ، وضع سطر تحت أبيات و خواطر استوقفته. "لا تتعجل أخطاءك.لا تستخف بها وتعمل على إصلاحها..إذ ما الذى تضعه مكانها ؟ " أو " لم ألبث أن انتبهت أنني لم أكن النمل فحسب وإنما كنت أيضا طريقه" أو "النوم في النهاية، هو أكثر خيباتك ثباتا " وجوارها سؤال بالقلم بصيغة خيبة أكبر، تأتي كما لو أنها الجملة الأولى في السمفونية الخامسة لبتهوفن: "والحب إذن ؟". ويصمت الأزرق. قضيت أياما في العودة إلى "أعمدة الزاوية" من باب الفضول في البدء، ثم مأخوذة بتطابق هذين الرجلين في كثير من الأشياء. كحبهما للرسم، وحبهما للون الأسود الذي كان غالبا ما لا يرسم هنري ميشو إلا به، أو عليه ، لوحاته. إضافة إلى كراهيتهما للأسماء أو للأضواء. وهاجس الموت الذي يسكنهما معًا. اكتشافي الآخر كان ، أن هذا الرجل يعمل في جريدة ، وأن في حياته خيبة عاطفية كبرى، وأنه يملك أسلوبًا على قدر كبير من السخرية ، التي تخفي مرارة وذكاءً حادين. وهو تمامًا .. النوع الذي أعشقه من الرجال . ألأنني كنت مسكونة بهاجس ناصر، وجدتني أيضًا أطالعه، وأعود إليه من بين فكرتين ؟ ثمة كتب تضعك أمام اكتشافات مذهلة . تكتشف فيها نفسك ، و مساحات منك لم تكن تعرفها. و أخرى شخصًا آخر، لم تكن تتوقعه . بل إنها قد تفضي بك من شخص إلى آخر. وها أنا أمام ناصر.حتى بدا لي أن بعض الخواطر هو قائلها. كذلك البيت : "لا اسم لي. اسمي تبذير للأسماء" وهل كان ناصر عبد المولى إلا تبذيرًا لحلمين ولاسمين: اسم جمال عبد الناصر، واسم الطاهر عبد المولى؟ كيف يمكن أن تولد أثناء حرب التحرير الجزائرية، بتوقيت التواريخ الناصرية دون أن تشعر فيما بعد، بأن سلسلة من المصادفات التاريخية، ستغير حتمًا تاريخ حياتك. قبل أي خطاب سياسي، تفتح وعي ناصر على اسمه، الذي كان نصفه منذورًا للقومية، والنصف الآخر للذاكرة الوطنية. قبل أن يكبر بالقدر الذي يسمح له بمتابعة الأخبار، أو بطالعة جريدة، فتح عينيه على غياب والده، وعلى الحضور الدائم لعبد الناصر، مبتسمًا ومحييًا في صورته الشهيرة. ليس فقط لعدم وجود جهاز للتلفزيون في بيتنا في تلك الأيام، ولن لأنه الصورة الوحيدة التي كانت في غربتنا ، تزين غرفة متواضعة للاستقبال. وأذكر تمامًا أن تلك الصورة وصلتنا إلى منفانا بتونس. عن طريق صديق لوالدي كان يدعى سي عبد الحميد، وكان يتردد علينا أثناء وجود والدي في الجبهة، محملاً بالهدايا وبمبلغ من المال، لا أدري إن كان منه أو بتكليف من الجبهة. ذات مرة زارنا، وراح يلاعب ناصر كعادته. ثم سأله" ماذا تريد أن أحضر لك؟" وإذا بناصر، و لم يتجاوز الرابعة من عمره، يجيبه وكأنه يطلب لعبه " جيب لي عبد الناصر". وتروي أمي أن سي عبد الحميد ظل مذهولاً للحظات قبل أن يجيبه بمنطق الأطفال" سآتيك به في المرة القادمة". ولأنه كان يتردد على القاهرة لإجراء بعض المشاورات السياسية، وكان أيضًا مسؤولاً عن متابعة شؤون الطلبة الجزائريين هناك، والذين كان من بينهم طالب لم يكن يدعى بعد هواري بو مدين، فقد أحضر لنا مرة صورة كبيرة لعبد الناصر، مع جملة من الهدايا التذكارية. منذ ذلك الحين أصبح بإمكاننا في بعض الأمسيات أن تستمع من تونس إلى" صوت العرب من القاهرة" وهو يبث خطابات لجمال عبد الناصر، وأناشيد عربية ملتهبة، لازلت أحفظ بعضها، كما يحفظ الطفل في ذلك العمر أناشيد تعلموها في روضة، وعلقت بذهنهم إلى الأبد . ثم ننام سعيدين، دون حاجةٍ إلى التلفزيون الذي لم نكن قد شاهدناه في حياتنا بعد. لقد كنا نتفرج على العالم من شاشة جداريّة.مثبتة عليها صورة عبد الناصر، قبل أن يأتي يوم تجاور فيه صورة أبي على الجدار صورة عبد الناصر، بحجم أصغر، ولكن بالحجم الكبير ذاته الذي نقلتها به الصحافة وهي تعلن في صيف 1960 على صفحاتها الأولى، مقتل أحد قادة الثورة على يد المظليين الفرنسيين، بعد معركة ضارية في مدينة باتنة. أذكر أنني احتفظت أيامًا بتلك الجريدة، كنت خلالها أفتحها بين الحين والآخر على الصفحة الأولى، وأقضي وقتًا طويلاً في تأمل ملامح أبي. كما توقف عندها الزمن إلى الأبد، قبل أن أفاجئ نفسي يومًا أقتطعها بمقص، وأقنع أمي بوضعها هي، ولا أية صورة أخرى في إطار، لتصبح هي الصورة الثانية في بيتنا. ربما ولدت لدّي يومها تلك الهواية السري، التي لم تأخذ بعدها الموجع في حياتي، إلاّ بعد أكثر من عشرين سنة، والتي استيقظت فجأة داخلي على أيام الانتفاضة الفلسطينيّة، عندما بدأت أقضي وقتًا طويلاً في تأمل صور الشهداء. تلك التي درجوا على أخذها فرادى أو مجموعات للذكرى قبل أية عملية انتحارية. والتي كانت تنشرها الجرائد في اليوم التالي لتعلن استشهادهم. وكنت أنا أحتفظ بتلك الصفحة من الجريدة.. عملية بعد أخرى. ثم لكثرتها قررت أن أجمعها في كيس وأضعها بعيدًا عن متناول يدي.. ومتناول نظري، كي أرتاح. وكنت قد نسيت أمر تينك الصورتين، اللتين بعد انتقالنا من تونس إلى الجزائر، لم تعودا جزءًا من ديكور غرفة استقبالنا، التي أصبحت أكثر فخامة من أن تزينها صورتان في تلك البساطة. قبل أن أعثر عليهما مصادفة ، منذ سنة تقريبًا، في غرفة صغيرة فوق سطح بيتنا ، حيث تعودت أمي أن تخبئ أشياء تحتفظ بها ، منظمة ومرتبة و"مدفونة " في حقائب وصناديق حديدية ، من ذلك النوع الذي اندثر ،مذ أصبح الناس يسافرون على متن الطائرة ، والتي أتوقع أن تكون أمي قد استعملتها لنقل حاجياتنا من تونس إلى الجزائر سنة 1962 غداة استقلال الجزائر. أذكر أنني عثرت على تينك الصورتين بفرح كبير، فقد أيقظتا في شيئًا ما ، أو زمنًا ما ، لفرط بعده، ولفرط صغري، بدا لي وكأنه لم يكن. كانتا ضمن أشياء أخرى تحتفظ أمي بها هكذا، لكونها أهم من أن ترمى، وأقل أهمية من أن تشغل مكانًا في بيتنا. ترددت يومها في تركهما لغبار النسيان، وكأنني لم أصادفهما. ثم ترددت في أن آخذ واحدةً دون الأخرى. فقد كانتا ذاكرة لزمن واحد. حتى إنه لم يكن بإمكان ذاكرتي البصريّة أن تفصل إحداهما عن الأخرى. ولذا قررت أن آخذهما معًا إلى بيتي، حيث أصبح لهما مكان ثابت في مكتبي.. أمام احتجاج أمي ودهشة زوجي. لم أشعر برغبة في تقديم أية شروح أحد. فقد كانت تلك الذاكرة تخصني وحدي. وربما أنا وناصر لا غير. ولكن ناصر أيضًا فاجأني بتعامله الصامت مع تينك الصورتين . وكأنه لم يكن ثالثهما. ولم أشأ أن أستدرجه إلى اعترافات طفوليّة قد يكون ألغاها منطق الرّجولة تأملت فقط صمته أمامها، واستنتجت أنه ربما نسي ولعه الطفو لي بأحدهما، وولع الآخر الأبوي به، وأنه تركهما لي، ليصبحا قضيتي وحدي. ولكن هاجسي الأول ظلّ هو. فهو رحل منذ أكثر من شهر، وأمي تطاردني بأسئلة عنه، لا أجد لها جوابًا. _لماذا ذهب إلى ألمانيا؟ الناس يذهبون عادة إلى فرنسا.. أنا لم أسمع بأحد سافر إلى ألمانيا.. ولا ادري ماذا أقول لها. أنا نفسي لم أعرف بوجهته إلا منذ أسبوع. كان ذلك عندما حدثني على الهاتف. وكنت أزور أمي مصادفة.سألته إذا كان كل شيء كما يريد. أجاب :" الحمد لله" سألته إذا كان له عنوان أو رقم هاتف نطلبه عليه فرد أنه سيتصل بنا كلما استطاع ذلك. فهمت أنه لا يريد أن يقول شيئًا على الهاتف. ثم سألني إن كانت أمي تقيم معي منذ سفره. أجبته أنها تصر على البقاء في بيتها . قال" لا تتركيها كثيرًا بمفردها إذن.." ثم أضاف للتأكيد " أرجوك..". أمي رفضت منذ البدء، فكرة الانتقال للعيش معي في انتظار عودة ناصر. فهي ترفض ذلّ الإقامة عند صهرها. خاصّة أنها تملك شقة جميلة، وأنها متعلقة بكل أشيائها الصغيرة. ولكنها، منذ ذلك الحين، أصبحت تزداد تعلقً بي. لا تكفّ عن زيارتي، أو طلبي هاتفيّاً ، واستشارتي في كل شيء، ومرافقتي إلى كل مكان، حتى بدأت أشعر من فرط حاجتها إلي بأنني أصبحت أنا أمها. وكنت أتفهم حاجتها الدائمة إلى حناني. فهي التي ترمّلت في سن العشرين، وتيتّمت قبل ذلك في طفولتها، لا تفهم أن تطاردها الحياة حتّى ذريتها، وأن يكون قدرها أن تعيش بين ابنة عاقر.. وابن غائب. وهكذا أصبحت أستمع برحابة صدر، إلى تذمرها، وشكواها، وثرثرة أمومتها. ولا أملك إلا أن أستسلم مكرهة لكل نزواتها. حتى أنني قبلت أن أرافقها بعد ظهر اليوم إلى " الحمّام التركي" برغم أنني لم أكن أشاركها يومًا حماسها لطقوس النظافة الأسبوعية، في هذا الحمّام الجماعيّ. في الواقع كنت أتفهم منطقها. الحمّام هو المكان الذي يمكن أن تلتقي فيه بكل نساء المدينة. ومثلهنّ يمكنها أن تثرثر وتحكي ماجدّ في حياتها، وهي تباهي بمشترياتها الجديدة، وصيغتها، وثيابها التي لم يرها رجل. تمامًا كما كانت في زمنٍ مضى تستعرض أواني الحمّام الفاخرة. من طاسة فضّيّة، ومشط من العاج والفضة بأسنان دقيقة، ومناشف فاخرة مطرزة، و"صابون ريحة" مستورد، وعطور، ومستحضرات لإزالة الشعر أو صبغة، وكثير من التفاصيل النسائية التي تعودت أن أراها في طفولتي مجموعة في سطل فاخر من الفضة المنقوشة، موجود دائمًا في ركن من الخزانة. جاهز للاستعراض الأسبوعي. بعد عشرين سنة، لم تتغير الأشياء كثيرًا. صحيح أن السطل فرغ من محتوياته وانتقل الآن من خزانة أمي إلى الصالون، ليتحول وعاءً فاخرًا يحتوي نبتة خضراء تزين قاعة الجلوس.ولكن عقل أمي لم يفرغ تمامًا من محتوياته.. ولا من عقليّته الأولى. لقد تأقلم فقط مع لوازم العصر. ولم يعد هناك من ضرورة الآن لتلك الحقيبة المبطنة والمغلفة من الداخل بالساتان السماويّ، بأثواب أمي الحميمية، وتمتع بها أكثر مما تمتع بملمسها رجل. وأذكر أنني في طفولتي، كثيرًا ما كنت أفتح تلك الحقيبة خلسةً، كما نفتح صندوق العجائب. وأجلس على طرف السرير. أحلم بذلك العالم النسائيّ الذي لم أكن أعرفه بعد. أتفرج على أشياء أمي الصغيرة.. أحلم أن يكون لي يومًا جسد يشبه جسدها تمامًا، أملأ به كل تلك الأثواب الحميمية. أحلم.. أحلم.ثم أغلق على جسد أمي في حقيبة. أعيد تلك الحقيبة إلى الخزانة. وأغادر مسرعة تلك الغرفة قبل أن تفاجئني أمي الأخرى. تلك التي لا جسد لها. هيذي أمي" الحاجة" بجسدها الذي تغير منذ ذلك الحين، تسبقني كما في طفولتي. فألحق بها من قاعة إلى أخرى داخل الحمام دون جدل. في تلك القاعات المتفاوتة التدفئة، والتي تزداد حرارتها كلما اتجهت نحو الأبعد، تصر أمي على القاعة الثالثة، الأشد حرارة. ولا أجادلها، رغم كراهيتي لهذه القاعات بالذات. ألحق بها. أمشي رويدًا رويدًا على بلاط مائيّ، جاهز للتّزلج والتهشم. أذكر أنني شاهدت يومًا امرأة، تقع أمامي.. وهي ممسكة برضيع، فيفلت من يدها، ويسقط ليموت بعد ساعات في مستشفى. أدخل قاعة، يتصاعد البخار فيها من البرك الجدارية. ويعلو صراخ طفل هنا.. وضحكات نساء هناك. أمام أول بركة، أجلس أرضًا،دون سؤال. أو بالأحرى بسؤال واحد: لماذا منذ طفولتي الأولى، كنت أكره الجلوس في هذه القاعات العارية إلا من البخار والماء، والتي لا تؤثثها سوى أجساد نساء عاريات؟ ترى احترامًا للأنوثة، التي كنت أتوقعها أجمل من أجساد لم تعد لها من حدود ، ولا تضاريس "طبيعية"؟ أم لأنني منذ البدء، خلقت لأكون كائنًا من ورقٍ وحبر، تلغيه هذه الكميات الهائلة من الماء والبخار؟ تجلس أمي جواري. تضع أشياءها. أما أنا فلا أشياء لي، سوى ما تركته في الخارج من أثواب أحضرتها إكرامًا لها.. فيما لو التقينا بمن يعرفني. تزعجني هذه الفكرة. فألف حول جسدي تلك الفوطة من جديد، وأعيد ربطها حول صدري تلقائيّاً. ولكن صوت أمي يباغتني، يعيد كلمات أعرفها تمامًا، لفرط ما سمعتها في هذا الحمام نفسه، مذ أصبحت صبية تستحي من أنوثتها، وتختبئ داخل الفوطة بإصرار من يبعد عنه تهمة. هنا أنت تتعلمين من عيون الآخرين، كيف تنكرين جسدك، وتضطهدين رغباتك، وتتبرأين من أنوثتك. فقد علموك أن ليس الجنس وحده عيبًا. وإنما الأنوثة أيضًا.. وكل ما يشبهني ولو صمتًا. تصرخ أمي بي كعادتها" انزعي عنّا هذه الفوطة !" تقودني كلماتها إلى أسئلة جديدة. تراها تظن جسدي أحد أملاكها الخاصة، لأنها أنجبتني؛ ومن حقها إذن أن تستعرضه أيضًا على الناس، كأحد إنجازاتها، واجدة فيه عزاءً وتعويضًا عما آل إليه جسدها هي؟ فجأة، وجدتني أعي أحد أسباب علاقتي المعقدة البعيدة بهذا المكان. ففي هذه المدينة التي ليس فيها أي مكان لما هو حميميّ وخاص، الحمام هو المكان الذي تنتهك فيه حرمة الجسد وحياؤه. تسلط عله الأضواء، والنظرات الفضوليّة للنساء. تتالى عليه الأيدي حكّاً ودلكًا وتشطيفًا، ساكبة عليه كميّات هائلة من الماء. وكأنها تريد أن تطهره من أنوثته. فهل الأنوثة نجاسة؟ أم هل لهؤلاء النساء اللاتي يولدن ويمتن غالبًا، دون أن يتعرين تمامًا أمام رجل، علاقة شبقية ما بهذه الكميات الهائلة من الماء، التي يسكبنها على أجسادهن سطلاً بعد آخر، ساعات بأكملها دون توقف، بلذة غامضة ما، وبانشغال تام بتفاصيلهن النسائية، وكأنهن جئن هنا، ليكنّ على موعد مع أجسادهن لا غير؟ أم أن جميع النساء، هن على اختلاف أجناسهن وأعمارهن حفيدات"كليوباترا" تلك الأنثى التي حكمت بلدًا في عظمة مصر، دون أن تغدر حمامها تمامًا! .. وأنهن يعتقدن ، عن صواب أو عن سذاجة،أنهن بعد كل حمام يعدن إلى بيوتهن ملكات، على عرش ليس سوى فراش الزوجية،عرش سيحملن تاجه لبضع لحظات_في العتمة_ ويعدن بعدها لحياتهن العاديّة. العتمة..! اكتشف الآن إحدى نعم العتمة. وأنا أتفرج على أجساد مشوهة الأنوثة، مترهلة البطون، متدلّية الصدور. وأفهم أن يكون الله ، بحكمته تعالى، قد خلق _ العتمة_ أيضًا ليمنح كل مخلوقاته حق ممارسة الحب في الظلام. وإلا..فمن من الرجال، مهما جمحت به رغبته الجنسية.. أو حالته المتقدمة من السكر، سيقدر على مضاجعة نساء على هذا الشكل.. في عز النهار؟ أحتفظ بتلك التعليقات لنفسي، تمامًا كما أحتفظ بتلك الفوطة حول جسدي، وكأنني أرفض أن أختلط أو أحسب على هذا الرهط من النساء، اللاتي تجلس كل واحدة منهن الآن جوار بركة ماء، وحولها سيول سوداء، أو بلون الحناء، حسب الصبغة التي وضعتها على شعرها، والتي تقوم الآن بغسلها، محولة هي وغيرها بلاط الحمام، إلى "دانوب" متعدد الألوان. وفجأةً، تدخل الحمام ثلاث نساء. متوسطات العمر، متوسطات الجمال، لكن بإغراء وبمظهر "مميز". فقد دخلن عاريات. شاهرات أنوثتهن في وجه الجميع، بينما العادة هنا أن تدخل جميع النساء بالفوطة ولا يخلعنها إلا وهن جالسات. وفي لحظة، التفتت نحوهن الأعماق، وطاردتهن نظرات فضولية وأخرى شزرة من كل صوب. أفهم من مسبات أمي ونعوتها لهن، أنهن مومسات. مومسات، وهل مازال في هذه المدينة مكان لمهنة كهذه..؟ عدا أرصفة بعض الشوارع قليلة الحركة، حيث يحدث لبعض البائسات أن يقفن. ينقسم تلقائيا، قاعة الحمام، إلى شطرين . النساء" الشريفات" من جهة، والنساء" المشبوهات" في الطرف الآخر. الطرف الأول يلاحق الطرف الثاني بالتعليقات.. والغمزات.. ونظرات الازدراء، التي مصدرها إحساس مفاجئ بفائض عفة وشرف. بينما يتجاهل الثاني تمامًا وجود الطرف الأول. وتتصرف النساء الثلاث، وكأنهن بمفردهن. ويضحكن بصوت عالٍ ، ويتغاسلن.. ويتغازلن استفزازًا للأخريات. وجدت لذة في وجودي الشاذ بين طرفين، دون أن أنحاز أخلاقاً لأحدهما دون الآخر. وربما كنت سرًا أتسلى بكتابة بعض التعليقات في ذهني. هنا، وسط البخار والماء والشهوة.. والنفاق النسائي. فقد كنت على مسافة وسطية من العفة.. والخطيئة. هناك حيث يقف الكاتب.. وحيث يقف أي إنسان طبيعي. فأنا أدري أن كل إنسان عفيف، يحمل في داخله قدرًا كافيًا من القذارة، قد تطفو يومًا فتغرق حسناته، تمامًا كما أن في أعماق كل إنسان سيء، شعلة صغيرة للخير، ستضيء داخله يومًا ، في اللحظة التي يتوقعها الأقل . وأدري قبل كل هذا، أن بإمكان أية امرأة أن تغدو قديسة أو عاهرة في أي لحظة. لقد خلقت بنصفين معًا. ولكنها كلما انحازت إلى أحد نصفيها، تمادت في السخرية والتشهير بالنصف الآخر. تهجم أمي على ذراعي، وتبدأ في دلكهما وحكهما بعد أن نفد صبرها، رافضة أن تسلمني إلى "طيابة". تواصل متحدثة إليّ شتم تلك "الفاجرات". تقول إن العائلات الكبيرة، تعودت أن تستأجر الحمام وتحجزه مرة في الأسبوع، لتدعو القريبات والصديقات على حسابها. كل هذا، حتى تضمن عدم اختلاطها بالغرباء، وبهذه النماذج التي هجمت على قسنطينة فانتهكت حرمتها، وأهانت أهلها. لا أجيب. أتظاهر بالاستماع فقط. فقد كنت مشغولةً عنها، بمقولة لساشا غتري: " ليس هناك من نساء غير شريفات.. وأخريات شريفات. ثمة فقط، نساء غير شريفات.. وأخريات قبيحات!". يومها غادرت الحمام، دون أن يغادرني ساشا غتري تمامًا حتى أنني عدت إلى البيت عصرًا تحت المطر. وأنا أستعيد إحدى مقولاته الساخرة: " لا تمارس الحب مساء السبت.. إذ ما الذي تفعله لو أمطرت السماء صباح الأحد؟". وهي غمزة ساخرة، عن الأزواج الذين يمارسون الحب عن ضجرٍ جسدي مساء السبت، ثم لا يدرون بعدها، ماذا يفعلون بأنفسهم طوال الغد، عندما يبقون في البيت.. في يومٍ ممطر! ورغم أنه كان يوم سبت ممطرًا، فقد قررت أن أخالف ذلك المساء نصيحة ساشا غتري ، بكون السبت ليس نهاية أسبوع عندنا بل بدايته. وبالتالي لن يكون زوجي هنا في الغد ليقاسمني ضجري، لكوني عائدة من حمام نسائي أشعل شهوتي، وبي رغبة في أن أهدي أنوثتي إلى رجل. طبعًا.. لم أكن أدري أنه يكفي أن أنوي الحب، كي تنقلب البلاد رأسًا على عقب. ولا توقعت أن التاريخ سيهدي إلى الجزائر يومها إحدى مفاجآته. ولا أن الرئيس الشاذلي بن جديد، سيختار ذلك السبت بالذات، ليعلن في نشرة الثامنة مساءً من ليلة 11 يناير 1992 استقالته، وحله البرلمان.. ومن ثمة دخول البلاد في متاهة دستوريّة. لم أعتب على الشاذلي بن جديد إهداره ليلتها رغبتي. فقد أهدر قبلها سنوات بأكملها من رغبات شعب. قطعًا ـــــــــــ وحده الزمن سيدلك على الصواب، عندما يفقد الآخرون صوابهم. أمّا التاريخ.. فلا تتوقع في هذه الحالات أن يقول كلمته على عجل. هو أيضًا ينتظر. ثمانية وعشرون عامًا من الانتظار. وطائرة تحطّ على مطار. ورجل تجاوز الثانية والسبعين من عمره، ينزل. يمشي على سجاد أحمر، مذهولاً من أمره. أكان بين الوطن والمنفى مسافة ساعة فقط؟ لماذا.. كان يلزمه إذن، ثمانية وعشرون عامًا ليقطعها؟! رجل نحيف، ومستقيم، وفارع كما هو الحقّ، احدودب ظهره قليلاً، وخشنت يداه كثيراً، وبانت عظام وجهه وعظام أصابعه. قبل قليل. قبل التاريخ بقليل. كان اسمه محمد بوضياف. وكان يسكن في مدينة صغيرة بالمغرب. يدير بيديه اللتين اخشوشنتا مصنعًا بسيطًا للآجُرّ. ويعيش بعيداً عن كلّ عمل سياسيّ. سوى ذكريات ثورة تنكّرت له، وأخبار وطن حذف حكامه اسمه حتّى من كتب التاريخ المدرسية، كزعيم أشعل ذات نوفمبر سنة 1954 الشرارة الأولى للثورة التحريرية. اللّحظة لم يعد له اسم. مذ خطا على تراب الوطن، أصبح اسمه هو "التاريخ". أليس التاريخ "هو ما يمنع المستقبل من أن يكون أيّ شيء"؟ الآن.. لم يعد له من عمر. لقد أصبح له أخيرًا عمر أحلامه، تلك التي جاءت متأخرة بجيلين وأكثر. الآن.. في هذا العمر، هو يتعلم المشي من جديد على تراب وطن، لم يمش عليه يوماً بحرية ولا بأمان. فقد طاردته فرنسا فوقه أرضًا وجوًا. ولم تجد من سبيل لإلقاء القبض عليه هو ورفاقه سوى خطف طائرتهم سنة 1956، وهي تعبر أجواء البحر الأبيض المتوسط، في رحلة تقلهم من المغرب نحو تونس، فحوّلت وجهتها نحو فرنسا، واقتادت بوضياف مع رفاقه الأربعة: أحمد بن بللّة وآيت أحمد ومحمد خيدر ورابح بطاط، موثقي الأيدي نحو معتقلاتها، أمام اندهاش العالم الذي لم يكن قد سمع بعد ببدعة خطف الطائرات، وأمام غضب الشارع العربي ومظاهراته، والذي كان عبدالناصر في السنة نفسها قد ألهبه خطابات حماسية، وملأه عنفواناً وغروراً قوميًا. حتى إن إذاعة صوت العرب من القاهرة لم يكن يلزمها أكثر من أيام لتخرج إلى العالم العربي بألحان حماسية تطالب بإطلاق سراح الزعماء الخمسة، أناشيد تلقفتها أفواه أطفالنا، وحناجر رجالنا، وزغاريد نسائنا، فردّدنا معها: "باسم الأحرار الخمسة حنرد الثار يا فرنسا.." كنّا نبكي. ووحده التاريخ كان يضحك. فهو وحده كان يدرك ما لم يكن يتوقعه أحد. فما كادت الجزائر تنال استقلالها، ويصبح "الزعماء الخمسة" أحراراً، حتى أرسل بن بللّة وقد أصبح رئيساً، من يقبض على رفيق نضاله محمد بوضياف، في حزيران 1963، وهو يغادر بيته. واقتيد بوضياف من مكان إلى مكان. حتّى انتهى به المطاف في معتقلات ضائعة في غياهب الصحراء، حيث خبر رجل الثورة الجزائرية الأول، قبل غيره، مهانة أن يكون لك وطن، أقسى عليك من أعدائك. وهو ما اكتشفه بعده بسنتين، بن بللة نفسه. عندما جاءه بومدين ذات حزيران (أيضًا) من سنة 1965 فأزاحه من السلطة ورمى به في السجن، ليخرج منه بعد خمسة عشر عامًا عجوزاً. أمّا بو ضياف الذي لم يطالب يومًا بالسلطة، وإنما رفض منذ البدء أن يكون قد كافح ليحرر وطنًا من الاستعمار، كي يسلمه لدكتاتورية الحزب الواحد، فقد تساوى عنده الحاكمان. يوم اختفى، لم يوجد من بين رفاقه أحد ليسأل أين ذهبوا به! كانوا مشغولين عنه باقتسام الوليمة. فمضى بذلك القدر الهائل من الغياب، كما عاد بهذا القدر الهائل من الحضور. تذكّروه، هكذا فجأة، بعد ثلاثين عامًا، وقد شبعوا وانتفخوا، وملأوا جيوبهم وأفرغوا جيوب الجزائر. وانسحبوا تاركين لنا وطنًا مرهونًا لدى البنك الدوليّ –مع كثير من التمني- لعدة أجيال فقط. فقد كان الوحيد الذي ما زال على ذلك القدر من النّحافة.. والنزاهة.. ولم يجلس يومًا حول طاولة الصفقات المشبوهة للسلطة. كان لابد من اسمه ليعيد الثقة إلى شعب لم يعد يثق بشيء، ولا بأحد. وقد تناوب عليه حكمًا بعد آخر، علي بابا والأربعون حراميّاً. جاؤوا به. قالوا له الكلمات التي لم تصمد امامها شيخوخته "الجزائر في حاجة إليك.. أنت الرجل الذي سينقذها". فقام العجوز. غسل يديه من طين الآجرّ، وذاكرته من الحقد. فقد آمن دائمًا أنه لا يمكن ان تبني شيئاً بالكراهية. وكان له مقدرة مذهلة على الغفران، فاحتضن من نفوه ومضى نحو "وطنه". فمنذ الأزل، لم يحدث أن نادته الجزائر ولم يستجب لندائها. ها هوذا.. يرتدي بذلة لم يتوقع أنه سيرتديها لمناسبة كهذه. يتعلّم المشي أمامنا. يتعلم الابتسام لنا. يرفع يده اليمنى ليحيينا بخجل، كمن يعتذر عن يدٍ لم تحمل يومًا سوى السلاح.. والآجرّ، ولم تكن مهيأة لمثل هذا الدور. ها هوذا.. بوضياف. يأتينا مشيًا على الأقدام، مشيًا على الأحلام. فتخرج لاستقباله الأعلام الوطنية، وجيل لم يسمع باسمه قبل اليوم. ولكنه يرى في قامته، تاريخ الجزائر في عظمتها الخرافية. ها هوذا.. ليست أقدامه التي كانت تبوس تراب الوطن مع كلّ خطوة، إنما تراب الجزائر، هو الذي كان يحتفي بخطاه، ويقبّل حذاءه. فلا تملك القلوب إلا أن تهتف: أيها التاريخ توقّف.. لقد جاءنا رجل من رجالك. كان يوم 14 يناير 92 يومًا استثنائيًا، حتى في طقسه. فقد توقفت فيه الأمطار التي هطلت قبل ذلك بغزارة، وجاء يوم مشمس. وكأنّ الطبيعة تطابقت مع مشاعر الجزائريين، أو كأنها أرادت أن تتواطأ مع التاريخ، وتهدي إلى بوضياف يومه الأجمل. طوال الظهيرة، تعلقت عيون الجزائر بشاشة التلفزيون؛ الكلّ يريد أن يرى ويسمع هذا الرجل الذي دخل حزب الصمت، منذ ثلاثين سنة. ماذا تراه سيقول؟ الكلّ يريد أن يقبل، ولو بعينيه، هذا الذي ينادي رفاقه "سي الطيب الوطني" والذي تناديه قلوبنا اليوم "أبي". فمنذ موت بومدين ونحن يتامى. نعاني إفلاسًا عاطفيًا، يفوق إفلاس اقتصادنا، وعجزًا وطنيًا في المحبة، يفوق عجز مزانيتنا. نحن نبحث عن رجل له قامة عبدالناصر، وكلمات بومدين، ونزاهة بوضياف، رجل في بساطة أهلنا، يمرّر يده على رأسنا، يربت على أكتافنا، يقول لنا أشياء بسيطة نصدّقها. يعدنا بأحلام بسيطة ندري أنه سيحققها، يبكي أمامنا عن كلّ من ماتوا، دون أن يحقق في انتماءاتهم. يعتذر للأحياء عن موتاهم.. وللموتى عن اغتيال احلامهم. رجل منذ نزوله من الطائرة يعلن الحرب على من سطوا على مستقبلنا، وبنوا وجاهتهم.. بإذلال وطن. يقول "الجزائر قبل كلّ شيء" فيوقظ فينا الكبرياء. وتصبح كلماته البسيطة شعارنا. قطعــًــا.. منذ الأزل، كنّا ننتظر بوضياف، دون أن ندري. ولكن بوضياف، ماذا تراه كان ينتظر؟ هو الذي قال يومها لزوجته "كلّ هذه الحفاوة لن تمنعهم من اغتيالي.. فلا ثقة لي في هؤلاء". وعندما سألته إن كان جاء إذن بنية الانتحار. أجابها كمن لا مفر له من قدر "إنه الواجب.. كلّ أملي أن يمهلوني بعض الوقت". * * * في اليوم التالي استيقظت المدينة بمزاج جاهز للجدل. واستيقظتُ بمزاج جاهز للكتابة، وكأنني لم أجد من طريقة للاحتفاء بعودة بوضياف، سوى العودة إلى ذلك الدفتر. فتحته حيث توقف بي الحبّ. وتوقف بي الحبر، منذ أربعة أشهر، عند قبلة. كانت نيتي أن أكتب شيئًا عن الحاضر، أن أصف اندهاشي الجميل أمام بوضياف. ولكن كانت عواطفي تلوي عنق قلمي نحو الماضي، وتوقظ داخلي رجلاً آخر، رجلاً أكاد لا أفتح هذا الدفتر حتى يحضر. رجل قال لي "تمنّيت أن أموت وأنا أقبلك. إذا كانت كلّ القبل تموت. فالأجمل أن نموت أثناء قبلة". ورحل. من وقتها، وأنا أغذي الذاكرة بكلماته المحمومة. كي لا تنطفئ في انتظاره نيران الجسد. أهي الرغبة؟ أم حاجة إلى الكتابة؟ أم.. قدر يجعل دائمًا كلّ قصة فردية، موازية لقصة جماعية، لا ندري أيتهما تكتب الأخرى؟ وإلا فما تفسير تلك المفاجأة التي كانت تنتظرني بعد ثلاثة أسابيع من عودة بوضياف؟ وإذا بي، أنا التي لم يفارقني هاجس اللّقاء به، في كلّ مكان ذهبت إليه أو مررت به، أعثر عليه حيث لم أتوقعه، في بيتي، على صفحات جريدة مهملة.. ملقاة عند أقدام مكتب زوجي! أحبّ تلك الهدايا التي تقدمها لك الحياة، خارج المناسبات، فتقلب بمصادفة حياتك، حتى تلك التي كهذه يرمي لك بها القدر أرضًا. فتنحني لالتقاطها ممنونًا، لأنك تعثّرت دون قصد.. بالحبّ! وماذا لو تكون قد تعثرت بشيء آخر؟ فلم يحدث للحب أن كان مجاوراً للسياسة إلى هذا الحدّ. * * * في صورة تذكارية تجمع بوضياف مع أعضاء من "التجمع الوطني" أراه، وأكاد لا أصدق عيني. يتسمّر نظري عند وجهه بالذات: هذه الملامح أعرفها تمامًا، وهذه النظرة الغائبة، إنها نفسها التي استوقفتني يوم خلع ذلك الرجل نظاراته السوداء في موعدنا الأخير، ليقبلني. وهذا الشعر.. هذا الفم.. هذا الكل.. أعرفه. إنه..(هو)! أعيد قراءة ذلك المقال المرافق للصورة بعجل، ثمّ بتأنَّ، كي أجد تفسيرًا لوجود هذا الرجل هنا. أفهم أنّ بوضياف قررّ إنشاء المجلس الوطنيّ الاستشاريّ، وهو تجمّع يضمّ عددًا كبيرًا من شرائح المجتمع الجزائري، معظمهم من المثقفين والسياسيين الجزائريين المعروفين بنزاهتهم، وغيرتهم الوطنيّة. وغير المحسوبين على أيّ نظام سابق، كي يساعدوه في إخراج الجزائر من مأزقها السياسيّ والتشريعيّ. أواصل قراءة المقال في الصفحة الثالثة، التي تملأها عدة صور، مرفقة ببطاقة تعريف بعض الأعضاء. فأعجب لنسبة الكتّاب والمثقفين، اللذين اختيروا ليكونوا أعضاءً في هذا المجلس. حتّى أن أحد الذين سيتناوبون على رئاسته، لن يكون سوى الكاتب عبد الحميد بن هدوقة. وإن من أعضائه كثيراً من المثقفات والأساتذة الجامعيين والصحافيين. في بلد لم يسأل فيه المثقفون ولا النساء.. يوماً عن رأيهم. أطالع كلّ الأسماء.. وكلّ المهن. ولا أعثر على أي رسّام بين كلّ هؤلاء، حتى أكاد أقتنع أن بي هوساً، وأنني أصبحت أرى صورته في كلّ مكان، خاصةً أنني أدري بوجوده في باريس. وتبدو لي مشاركته في تجمّع كهذا أمرًا مستبعدًا، إلا إذا كان قد عاد من السفر.. ثم تخطر في ذهني فكرة، وأجدها قادرة على أن تحسم شكوكي، فأتجه نحو الهاتف وأطلب تلك الأرقام التي ما زالت يدي تحفظها عن ظهر قلب، أو قلبي عن ظهر يد. كانت الساعة التاسعة صباحاً. لم أتساءل حتّى إذا كان الوقت مناسبًا، أو إذا كان ذلك الرجل نفسه هو الذي سيردّ على الهاتف،بل إذا كانت تلك الأرقام التي كنت اطلبها بيد مرتبكة، وقلب يتضاعف نبضه.. صحيحة حقاً. فجأة أصبحت على عجل. لا وقت لي حتّى للتحقق من صحتها. أريد أن أسمعه، أو أسمع على الأقل ذلك الهاتف وهو يرنّ في بيت عرفت فيه الحبّ، فيوقظ أثاثه، ويتحرش بذاكرته. ولكن في الدقة الثانية رُفعت السماعة، وكاد قلبي معها يتوقف عن النبض. أوشك أن أقول شيئًا، ثم أنتظر أن يردّ أحد قبل أن أنطق. بعد شيء من الصمت، يأتي ذلك الصوت الذي لم أعد أنتظره لفرط ما انتظرته. تراه عرفني من أنفاسي كي يسأل دون مقدمات: -كيف أنت؟ أكاد لا أصدق ما يحدث لي. أردّ: -أأنت هنا؟ ثمّ أواصل بالاندهاش نفسه: -كيف عرفتني؟ يجيب بسخريته المحببة: -من صمتك.. الصمت كلمة السرّ بيننا. ولا أجد شيئاً أرد به سوى كلمات محمومة.. أردّدها كيفما اتّفق كمن يهذي: -اشتقتك.. كيف تخلّيت عنّي وسلّمتني إلى هذه المدينة المجنونة.. أريد أن أراك.. كيف أراك؟ أجبني. أتدري أن الحياة لا تساوي شيئاً دونك.. ماذا فعلت بي لأحبّك إلى هذا الحدّ؟ ولا يجيب بشيء، وكأنّ كلماتي لم تصله. يسألني فقط: -من أين تتكلّمين؟ أجيب: -من قسنطينة.. يواصل: -من أيّ مكان بالذات؟ أجيب: -من البيت. يردّ: -اطلبيني من مكان آخر. أسأله: -لماذا؟ لا يردّ. أسأله: -متى؟ يجيب: -متى تشائين.. أنا باق هذا الصباح في البيت. ويضع السماعة. حدث كلّ هذا في دقائق. ولم يكن يلزمني أكثر من هذه الدقائق لأعود تلك المرأة الأخرى التي كنتها قبل أشهر. ها أنا أدخل الدوّامة نفسها من الفرح والخوف والترقب والتفاؤل.. والتساؤل. لماذا يعود هذا الرجل دائمًا عندما أكفّ عن انتظاره؟ لماذا يعود دائمًا بتوقيت الأحداث السياسية الكبرى؟ لماذا لم يعطني إشعاراً بوجوده، مادام قد عاد من فرنسا؟ ولماذا يسألني من أي مكان بالتحديد أتحدث إليه؟ ولماذا.. كما عَبْرَ نهر، يأخذني إليه دائمًا تيّار الرغبة الجارف. يدحرجني من شلالات شاهقة للجنون.. يمضي بي من شهقة إلى أخرى.. يجذبني عشقه حيث لا أدري. جميل ما يحدث لي هذا الصباح. كأن تستيقظ من نوم شتويّ، تزيل ستائر نافذتك بكسل، وفضول من يريد أن يعرف ماذا حدث في العالم أثناء نومه. وإذا بالحبّ، يطالع جريدة على كرسيّ في حديقة بيته وينتظره! بينك وبينه، لم يكن سوى زجاج النافذة المبلل.. وفصل. وحيثما كنت، ستستيقظ حتمًا، على حبّ لا علاقة له بالفصول. المطر لن يمنعني من مغادرة البيت، فلي هذا الصباح نشرتي الجوية الخاصة. وهكذا في أقلّ من نصف ساعة، كنت قد ارتديت ثيابي.. وتهيأت للخروج. أمّي التي لم تتعود زياراتي الصباحية، فاجأها حضوري في ساعة قلّما أكون غادرت فيها السرير. ولكنّها راحت تستفيد من وجودي الذي لم تجد له من مبررا عدا ضجري، واشتياقي إليها، كي تحجزني أمام فنجان قهوة، وتبدا بسرد همومها ومتاعبها الصحية. استمعت إليها بما أوتيت من صبر، وبما أوتيت من ذكاء أيضًا. فقد وجدت لمتاعبها حلاً فوريًا على قياسي: أن نسافر معًا إلى العاصمة للاستجمام! طبعًا قبلت أمي فكرتي بحماس. فإضافة إلى كلّ الأقارب والأصدقاء الذين بإمكانها زيارتهم هناك.. سيكون بإمكانها أن تحجزني معها في بيت واحد لعدّة أيام. وهذا في حدّ ذاته، تسمّيه أمي "تغيير جو"! كان لهذا المشروع الذي ارتجلته تواً مفعول منشط على أمي، التي ذهبت نحو المطبخ، تعدّ غداءً يتناسب مع مفاجأة زيارتي.. ومفاجأة سفرنا. أمّا أنا.. فاتجهت نحو الهاتف بالتوتر والفرحة نفسها.. لأطلب ذلك الرقم إيّاه. وبالهدوء نفسه، عاد ذلك الصوت نفسه يسأل: -كيف أنتِ؟ أجبته كمن يحلم: -الآن فقط بإمكاني أن أقول إنني جيّدة. -وكيف كنت من قبل؟ -كنت أعيش فراغًا في كلّ شيء. -احذري الفراغ.ز إنه يصنع الرداءة. -ولكنه زمن رديء على كلّ حال. -قد يصبح أجمل.. يكفي أن نثق بذلك. -أنت نفسك سبق أن قلت إنك لم تعد تثق بشيء.. أتذكر؟ قلت هذا في ذلك اليوم الذي التقينا فيه عند بائع الجرائد. -أذكر.. ولكنني اثق برجل. ولأنه عاد، عادت ثقتي بالقدر. أسأل: -أعدت من أجله أم..؟ أصمت وكأنني أمنحه فرصة اعتراف عاطفيّ ما. ولكنّه يجيب متجاهلاً إيحائي: -أجل.. عدت من أجله. -وأنا ..؟ يصمت قليلاً وكأنه لم يتوقع سؤالي ثمّ يقول: -أنتِ..؟ ويغرق في صمت آخر. أواصل: -في ذلك اليوم الذي التقينا فيه عند بائع الجرائد. أتذكر؟ نصحتني أن لا أطالع الجرائد. ومنذ ذلك اليوم.. لم أطالع جريدة. ولو لم أتصفح جريدة هذا الصباح مصادفة، لما كنت عرفت بوجودك هنا. أيعقل أن تعود دون أن تعطيني علمًا بذلك؟ -ولكنّني فعلت.. أتعتقدين أنك عثرت مصادفة على تلك الجريدة؟ لا شيء يحدث مصادفة حقًا. ثمّة أشياء لفرط ما نريدها بإصرار وقوة تحدث. حتّى يبدو لنا في ما بعد كأننا خططنا لها بطريقة أو بأخرى. -ولكنك تبدو فاتر العواطف.. غير مشتاق! ردّ بنبرة ساخرة: -بلى. أنا مشتاق وعندي لوعة.. ولكن -ولكن ماذا؟ -ولكن هاتفك في البيت مراقب.. وربما هذا أيضًا. تحاشَيْ طلبي من البيت. أفضّل أن تأتي إلى العاصمة. سيكون ذلك أفضل. أجبته بثقة امرأة: -سآتي.. ثم أضفت قبل أن ينقطع الخطّ: -حتمًا. * * * النساء أيضًا كالشعوب؛ إذ هنّ أردن الحياة فلابدّ أن يستجيب القدر. حتّى إن كان الذي يتحكم في أقدارهنّ ضابط كبير، أو دكتاتور صغير في هيأة زوج. حتّى الآن، لا أدري كيف استطعت إقناع زوجي بفكرة سفري إلى العاصمة للاستجمام على شاطئ البحر، في عزّ الشتاء! وكيف لم يجد في سفر كهذا شبهةً ما. أتذكّر تلك المقولة الساخرة "ثمّة نوعان من الأغبياء: أولئك الذين يشكّون في كلّ شيء. وأولئك الذين لا يشكون في شيء!". أمّا زوجي الذي يملك من التذاكي المهنيّ ما يجعله دائمًا على حذر، فقد بدأ حياته الزوجية معي، كأيّ عسكريّ، بالتجسس والتحري والاشتباه في كلّ شيء. ثمّ أمام غياب الأدلّة، أعطاني من الحرية ما فاجأني، أو ربّما بقدر ما يلزمه من الوقت كي ينصرف عنّي إلى مهامه، واثقًا من سطوة نجومه الكثيرة.. عليّ. وهذه المرة ايضًا، من الأرجح أنه مشغول عنّي بالمستجدات السياسيّة، وأن لا وقت له للتجسس على مشاغلي النسائيّة، التي حتّى الآن، لم يكن فيها ما يستحق الإخفاء والحذر. مشكلتي الآن مع "الآخرين"، أولئك الذين عوض التنصّت إلى الإرهابيين.. يتنصّتون إلى هواتف العشّاقّ! ساعة في طائرة، لا أكثر، وإذا بي أبتعد عن قيودي بمئات الكيلومترات. وأعود إلى ذلك البيت نفسه الذي جئته منذ أربعة أشهر مع فريدة. بيت أسميته بيت الحلم، فهنا كلّ شيء يصبح ممكناً كما في الأحلام. ما كدت أصل، وأضع شيئًا من الترتيب حولي حتّى أسرعت إلى الهاتف. وجاء ذلك الصوت بحرارة هذه المرة يؤكد لي أنني لا أحلم. -أخيراً أنتِ.. لو تدرين كم افتقدتك.. سأراك غدًا.. أليس كذلك؟ كلمات، وسؤال لا أكثر، ويصبح العالم أجمل، وتصبح الأسئلة أكبر. ولكن لا وقت لي للإجابة عنها؛ مأخوذة أنا بهذه الحالة العشقيّة.. مأخوذة حدّ الأرق. مقولة لبودلير منعتني من النوم. "كلّ إنسان جدير بهذا الاسم، تجثم في صدره أفعى صفراء، تقول (لا) كلما قال (أريد)". قضيت ليلتي في محاولة قتل تلك الأفعى. اكتشفت قبل الفجر بقليل أنّ "لا" أفعى بسبعة رؤوس، وأنك كلّما قتلتها، ظهرت لك "لا" أخرى، شاهرة في وجهك –لأسباب أخرى- أكثر من حرف نهي وتحذير. وبرغم ذلك، غفوت وأنا أقرض تفاحة الشهوة، على مرأى من رؤوسها. لي موعد مع "نعم". وكلّ شيء داخلي يعيش على مزاج "نعم". صباح "نعم" أيها العالم. صباح "نعم" أيها الحبّ. يا كلّ الأشياء التي تصادفني والتي اصبح اسمها "نعم". يا كلّ الكون الذي يستيقظ جميلاً على غير عادته: من نقل إليك خبر "نعم"؟ أيّتها الأغاني التي يردده المذياع هذا الصباح.. وكأنه يدري ما حلّ بي. أيتها الطرقات المشجرة التي تمتد أشجارها حتى قلبي، أيتها الطاولات التي تنتظر على رصيف شتويّ عشاقها، أيتها الأسرة غير المرتبة، التي تنتظر في مدن "نعم" متعتها. أيّها الليل الذي مساؤه "ربّما". صباحك "نعم". فكم كان مساؤك "لا" يا أيها المساء! في اليوم التالي استيقظت من ليل تقاسمته مع بحر شتويّ هائج. وبداته بصباح مفخخ بأسئلة أمّي ومشاريعها. ولكنني نجحت في إحباط كلّ برامجها المشتركة بكذبة. وذهبت نحو مشروعي الأجمل. انطلقت بي السيارة ظهرًا، سالكة طريق الحبّ نفسه. الذي بدا لي أطول رغم سرعة السائق، ورغم خلوّ الطرقات هذه المرّة، من حواجز التفتيش. شعرت بالاطمئنان، وأنا أرى الشوارع قد عادت إلى حياتها الطبيعيّة. وفرغت من المتظاهرين، والملتحين، واختفت منها اللافتات، والهتافات. ولذا، نزلت عند ساحة الأمير عبد القادر. وواصلت طريقي مشيًا على الأقدام. رقم.. رقمان.. بناية.. بنايتان. وطوابق أربعة أصعدها بسرعة سارقة، وبلهفة عاشقة. شوق يركض بي.. قلب تسرع دقّاته. وباب ينفتح من دقة واحدة، وينغلق خلفي. باب يفصلني عن مدينة "لا" ويدخلني عالم "نعم". رجل لا اسم له ينتظرني. يتأملني. يضمني. وقبلة خلف باب مغلق توّاً على فرحتي تسمّرني بين عالمين. يسألني وهو يراني ألتقط أنفاسي: -هل وجدت صعوبة في الوصول إليّ هذه المرّة؟ وأجيب: -الأصعب كلّ مرة أن أجتاز هذا الباب.. ثمّ اواصل بعد شيء من الصمت: -دخولاً .. وخروجًا! يردّ بشيء من السخرية: -ابقي هنا إذن! أرتمي متعبة على الأريكة. أقول: -احجزني رهينة عندك.. أيمكنك هذا؟ يجيب ساخرًا: -كلنا رهائن. -رهائن من؟ أتوقع أن يقول "رهائن الحبّ".. ولكنّه يقول: -رهائن الوطن.. أردّ بشيء من العصبية: -أرجوك.. دعني من السياسة. أنا لست هنا لأحدثك عن الوطن. أنت لا تعي كم أنا أجازف للوصول إليك.. فقط لأعيش لحظة حبّ. -ولكن ليس ثمّة من حبّ خارج السياسة. ألم تفهمي هذا بعد؟ أصمت لأنني لم أفهم. ولا أريد أن أفهم. لماذا تصبح السياسة طرفًا ثالثأ في كلّ علاقة؟ لماذا تنام في سرير الأزواج، وفي سرير العشّاق؟ لماذا تتناول معنا فطور الصباح.. وكلّ وجبات النهار. وترافقنا إلى زيارة الأحياء والأموات من أهلنا؟ لماذا تسبقنا إلة مدن الحلم، وحال وصولنا، تجلس معنا على الأريكة. ولماذا تبعث بقريب إلى الغربة، وتعود متى شاءت بمن نحبّ؟ أقول: -ربّما كنت على حقّ.. في النهاية السياسة هي التي عادت بك. ثمّ أواصل: -لحسن حظّ الحبّ. -وماذا لو كان العكس؟ -لا أصدّق أن تكون قد عدت من أجلي.. -أنا لم أقل أنني عدت من أجلك.. لنقل إنني عدت كي نواصل كتابة الرواية معًا.. أليس هذا الذي يعنيك؟ -ربّما.. ولكن لا أفهم أن يعنيك أنت إلى هذا الحدّ. يضحك: -طبعاً يعنيني.. لأنني لا أريد أن أخلف نهايتي، أريد لنا نهاية جميلة. -حقًا؟ -طبعًا.. مهمّة هي النهايات، في الكتب كما في الحياة. أقاطعه: -أتدري ما يعنيني الآن بالتحديد؟ يعنيني أن أعرف من تكون. ولا شيء غير هذا. منذ ذلك اليوم وأنا أشتري كلّ الجرائد، أتفحّص كلّ الصور، أطالع كلّ المقابلات السياسية التي يدلي بها أعضاء المجلس الوطنيّ. أعرف حياة الجميع. أقرأ تصريحاتهم جميعًا حول كلّ شيء، ولا أقرأ شيئًا لك.. لماذا؟ يردّ ساخراً: -لهم نياشين الكلام.. ولي بريق الصمت. -ولكن مع ايّ جهة أنت؟ إلى أيّ حزب تنتمي؟ يردّ: -السؤال الحقيقي. هو عمّ انت منشق. وليس إلى أي حزب تنتمي. لا أملك إلا أن أتبع منطقه في قلب الأسئلة. أسأل: وعمّ انت منشق؟ يصمت وكأنّ السؤال فاجأه. ثمّ يجيب: -لي أكثر من جواب عن سؤال كهذا. لنقل إنّني منشق عن أحلامي. أنا الشاهد الأخير يا سيدتي على الأفول العربيّ. قضيت عمري على شرفة الخيبة. أتفرج على غروب أحلامي وطنًا.. وطنًا، بما في ذلك وطني. أفهمت لماذا كان لابدّ أن لا أخلف نهايتي في هذه القصّة؟ تسألينني عن سرّ صمتي، أنا رجل كنت قبل مجيء بوضياف فارغًا بلا أحلام. كلّ أحلامي كانت خلفي. -وأنا؟ -أنتِ؟ -أين تضعني في كلّ هذا؟ -أضعك تمامًا حيث أنتِ الآن. -أي..؟ -أي على ورق. أحلامي معك، كمشاريعك معي لا تتجاوز مساحة صفحة. حتّى عندما تكون هذه الصفحة في حجم سرير. إنه قدرنا. هذا الرجل يتقن الكلام، إلى درجة يمكنه معها أن يمرّ بمحاذاة كلّ الأسئلة، دون أن يعطيك جوابًا، أو هو يعطيك جوابًا عن سؤال لم تتوقع أن يجيبك عنه اليوم بالذات، وأنت تطرح عليه سؤالاً آخر. وهكذا ها هو يجيبني عن سؤال كان يشغلني في البدء. بل كان سببًا لبدء هذه القصة، يوم كان همّي أن أعرف لماذا دخل هذا الرجل دير الصمت، واختصر اللغة حتّى لم تعد تتجاوز بضع كلمات تراوح بين "حتمًا" و"قطعًا" و"طبعًا" و "دومًا" وكأن كلّ الحياة يمكن أن تختصر بها. لماذا حوّل العالم كلماتٍ قاطعةً، والحبّ كلماتٍ متقاطعةً، يصعب على أية امرأة أن تجاريه فيها أو تهزمه؟ وأنا التي دخلت معه هذه المبارزة اللغوية، ككاتبة تحترف الكلمات، وترفض أن يهزمها "بطل" في عقر دارها، وفي كتاب هي صاحبته، ها أنا أهزم أمامه شوطًا بعد آخر، وأتورط معه سؤالاً بعد آخر، بعدما أصبح كلّ سؤال يوصلني إلى أسئلة أخرى. ومنذ البدء كنت أدري تمامًا أن الأسئلة توّرط عشقيّ. ولكن.. لم أكن أعرف أنه، مع هذا الرجل بالذات، تصبح الأجوبة أيضًا انبهاراً لا يقلّ تورطًا. أحبّ أجوبته، وأعترف أنني كثيرً ما لا أفهم ما يعنيه بالتحديد. كثيرًا ما يبدو لي وكأنّه يحدّث امرأة غيري عن رجلٍ آخر. ولكنني أحبّ كلّ ما يقول، ربّما لأنني مأخوذة بغموضه. أقول وأنا أعبث بيده: -أحبّك.. حرّرني قليلاً من عبودّيتك. يحتضنني ويسحبني نحوه قائلاً: -الحبّ أن تسمحي لمن يحبّك بأن يجتاحك ويهزمك، ويسطو على كلّ شيء هو أنت. لابأس أن تنهزمي قليلاً.. الحبّ حالة ضعف وليس حالة قوة. -ولكن.. -ولكن.. لأنك لم تعي هذا، أن تتكررين خطأً سبق أن ارتكبته في كتاب سابق. أريد أن أسأله متى حدث هذا، وفي أيّ كتاب، ولكن شفتيه تسرقان أسئلتي وتذهبان بي في قبلة مفاجئة.. كأجوبته. فأستسلم لاجتياح شفتيه لي. وكأنني أريد أن أثبت له، مع كلّ مساحة تسقط تحت سطوة رجولته، كم، كم أنا أحبه. في الواقع، لم أكن املك القوة، ولا الرغبة في مقاومته. كنت أجد متعتي في اندهاشي به، وهو يضع مفاتيحه في الأقفال السرّية لجسدي. في المتعة كلمة سرّ، وشيفرة جسدية، تجعل من شخصٍ عبداً للآخر دون علمه. وهذا الرجل الذي لم يستعمل معي سوى شفتيه، من دلّه على متعتي، كي يسلك ممرات سرّية للرغبة، لم تعبرها شفتا رجل قبله؟ ثمّ فجأة وضع قبلتين متلاحقتين على فمي. كما يضع نقاط انقطاع بعد جملة مفتوحة، ونهض ليبحث عن علبة سجائر. اغتنمت فرصة انشغاله. فاتجهت نحو الحمّام كي أجدّد هيأتي. تأمّلت دون اهتمام تفاصيل أشيائه الرجالية، التي استوقفني منها على رفّ المغسلة، زجاجتا عطر من النوع نفسه، إحداهما مفتوحة، والأخرى مازالت مغلفة بورقها الشفّاف. سحبت تلك المفتوحة. ورحت أتأملها بفضول من وقع على سرّ. تذكّرت كلّ تلك المرات التي كنت سأسأله فيها "ما اسم عطرك يا سيّدي؟". تذكّرت أيضاً أن قصتي مع هذا الرجل، ولدت بسبب كلمة وعطر. وربما بسبب هذا العطر وحده. الذي لولاه لما استدللت عليه. كنت لا أزال ممسكة بتلك القارورة، عندما عبر الممر، متجهاً نحو المطبخ. سألته ممازحة، وأنا أجرب العطر على كفّي: -ألأنني أبديت إعجابي بعطرك، أصبحت تشتري منه قارورتين دفعة واحدة؟ ردّ ضاحكاً: -لا.. لقد أحضرت معي هاتين القارورتين من فرنسا.كلّما سافرت أحضرت واحدة لي، وأخرى لصديقي عبد الحق. في الحقيقة، هو الذي جعلني اكتشفه. إنه لا يستعمل غيره. كنت على وشك أن أغادر الحمّام عندما عاد وكانه تذكر شيئاً. ثمّ قال وهو يمدني بتلك القارورة المغلقة: -أعتذر، لأنني لم أحضر لك شيئاً معي. لقد عدت على عجل. هل تسمحين لي بأن أهدي إليك هذا العطر؟ يقال إن المرأة تحبّ استعمال عطر الرجل الذي تحبه.. ضعيه كلّما اشتقتِ إليّ. قلت وأنا أتسلم منه تلك القارورة: -لم أكن اعرف هذا.. تبدو لي الفكرة جميلة. ولكن أخاف أن تلزمني قارورة كلّ أسبوع إذا كان الأمر يتعلّق بالشوق! ثمّ أضفت مستدركة: -وصديقك؟ أجاب: -لا تهتمي.. سأتّدبر أمره. سعدت بتلك الهديّة. شعرت أنني أطوق هذا الرجل موعداً بعد آخر. أتسلل إلى عالمه الحميميّ من حيث لا يتوقع، وأسطو على كلّ ما قد يدلّني عليه. عدت إلى قاعة الجلوس. كان يدخّن بهدوء على الأريكة المقابلة لي. وكأنه قرّر أن يتأملني. أو يتأمل ما فعله بي في عمر قبلة. أخفيت تلك القارورة في حقيبة يدي، بفرحة تشبه تلك التي احسست بها يوم أخذت منه كتاب هنري ميشو. عساني أكتشف أخيرًا من يكون. وجدتني أقول له دون تفكير وأنا أعيد الحقيبة إلى مكانها. -أتدري ماهو اجمل شيء يمكن أن تهديه إليّ؟ ردّ وهو يواصل تدخين سيجارته، واضعًا قدميه على طرف الطاولة: -ما هو..؟ قلت: -الحقيقة! أيمكنك أن تهدي إليّ الحقيقة؟ من حقّي أن أعرف من تكون. ردّ ساخراً: -أجّلي خيبتك قليلاً! واصلت بإصرار: -ما اسمك؟ هل صعبٌ إلى هذا الحدّ أن تبوح لي باسمك؟ ردّ ضاحكاً: -لا.. ولكن أيّ الاسمين يعنيك؟ قلت: -وهل لك اسمان..؟ لماذا؟ ردّ: -لأننا نعيش في عصر، حتّى الدول والأنظمة والأحزاب، غيّرت فيه أسماها في ظرف سنوات قليلة، وبجرّة قلم. أي بما يعادل لحظة من عمر التاريخ. في روسيا وحدها توجد ثمان وعشرون مدينة غيّرت اسمها. بما في ذلك لنينغراد. ولماذا لا نستطيع، نحن الناس البسطاء، أن نفعل ذلك عدما نغيّر معتقداتنا.. أو عندما يطرأ على حياتنا ما يغيّر مجراها؟ أتدرين.. تعجبني حكمة الصينيين، وذلك التقليد الجميل، الذي يتّبعونه في اختيار اسم جديد لهم، في آخ حياتهم. كأنهم، وقد خبروا الحياة، أصبح بإمكانهم أن يختاروا اسما يناسبهم لحياة أخرى. في النهاية، إنّ الأسماء التي تشبهنا تهبنا إيّاها حياتنا. أمّا تلك التي نأتي بها الحياة، فكثيراً ما تجور علينا. لنقل أنني أعجبت بهذه الفكرة، وقرّرت أن أكون رجلاً باسمين. جوابه كالعادة لا يحمل أيّ جواب. وإنما قدرة مدهشة على تحاشي الأسئلة. ولكنّني لا أستسلم. بل أطارده بإصرار. -أعطني أيّ اسم شئت. أريد اسماً أناديك به. يجيب بنبرة عادية: -اسمي خالد بن طوبال. أرددّ مذهولة: -خالد بن طوبال؟ ولكن.. يقاطعني: -أدري.. إنّه اسم بطل في روايتك.. أعرف هذا ولكنّه أيضًا اسمي.. أجلس على طرف الأريكة. أتفرّج على رجل أتعرّف إليه. وأستعيد آخر، عرفته يومًا في كتاب سابق. كان أيضًا رسامًا من قسنطينة. رجل أعرف كلّ شيء عنه، كما لو كان أنا. ولم تفصلني عنه سوى الرجولة، وجسد شوّهت الحرب ذراعه اليسرى. أيعقل أن يكون هو؟ أتأمله دون أن أصدق هذا. أتوقع أن يقول شيئاً. ولكنّه لا يفعل. يواصل تدخين سيجارته بالهدوء نفسه. في لحظة ما، أشعر أنني أقترب من الحقيقة، ولا يفصلني عنها سوى سؤال واحد. "هل خالد بن طوبال هو اسمه الأول أم اسمه الثاني؟". والجواب عن هذا السؤال سيكون مخيفًا وحاسمًا، لأنه سيقلب كلّ مقاييس هذه العلاقة، ومعها هذه القصّة. ولذا تماديًا في الغموض والمراوغة.. لا أتوقع أن يجيبني عنه بسهولة. أسأله: -هل هذا هو الاسم الذي يناديك به أصدقاؤك وزملاؤك في الشغل؟ يردّ: -طبعاً.. وهو أيضًا الاسم الذي أوقع به مقالاتي. ثمّ أمام دهشتي. يمدّني بجريدة على مقربة منه. ويدّلني على مقال سياسيّ يحمل توقيع خالد بن طوبال. آخذ منه الجريدة غير مصدّقة لما أرى. طبعًا، كنت توجست من مطالعتي لكتاب هنري ميشو أن يكون صحافيّا وأذكر تماما، ذلك البيت لهنري ميشو: "في انتظار الشمس، تعلّم أن تنضج في الجليد". والذي أضاف أسفله، بقلم أزرق (أو في جريدة)!. ولكنّني لم أتوقف طويلاً عند البيت الآخر. "ليس لي اسم اسمي تبذير للأسماء" والذي وضع تحته سطرين. وكأنه البيت الذي يشبهه الأكثر. بقيت ممسكة بالجريدة، بينما واصل هو تدخين سيجارته متجاهلاً نظراتي. وربّما تماديًا في التجاهل، أشعل جهاز التلفزيون. وها هوذا يغرق في متابعة تحقيق أخباري حتّى كاد ينسى وجودي معه. كان التلفزيون يعرض تغطية مباشرة للجولة التي يقوم بها بوضياف في الوطن، لشرح مبادئ التجمّع الوطنيّ. كان بوضياف يخطب ملوحًا بيده: "إنّ في هذا البلد مافيا ومسؤولين استحوذوا على أموال ليست لهم. اعدكم بإعلان حرب حقيقية على هؤلاء. إن العدالة ستدرس كلّ الملفات. وستقوم بدورها. وإنني أطلب من المواطنين أن يساعدوا العدالة في ذلك.. أن يكتبوا إليها.. ويزودوها بكلّ ما لديها من معلومات.. لن يكون هناك بعد الآن من أحد فوق العدالة، العدالة ستطول الجميع. فمن حقّ الشعب أن يعرف الحقيقة. من حقه أن يعرف أين ذهبت أموال هذا الوطن.." كان لكلمات بوضياف المرتجلة، في ذلك النقل المباشر، والتي ألهبت الحضور هتافات وزغاريد، ما جعل مزج جلستنا يتغيّر بعض الشيء، قبل أن يكسر ذلك الرجل الصمت بيننا.. ويتوجّه نحوي معلقًا: -لن يتركوه ينجز ما جاء من أجله.. أنا واثق من هذا.. لا أدري بالتحديد ماذا كان يعني. فقد كان ذهني ما يزال مشتتّاً، ولكنّني سألته بنية مدّ الحديث: -لماذا؟ أجاب بلهجة تهكمّية: -لماذا؟ لأنهم لم يأتوا به ليفتح الملفات الملغومة، وإنما واجهة يواصلون خلفها حكم الوطن ونهبه. ولذا يقول المقربّون منه، إنه يغلق على نفسه ساعات طويلة في النهار والليل. إنه يبحث عن الحقيقة التي يريد أن يهديها إلى الشعب بعد ثلاثة أشهر.. بمناسبة عيد الاستقلال. ثمّ يواصل بعد شيء من الصمت: -تبحثين عن الحقيقة؟ الكلّ يبحث عن الحقيقة.. ولكنّ الكلّ يخافها. أتدرين لماذا؟ أتمتم: -لماذا؟ يطفئ سيجارته في المنفضة ببطء، وكأنه يسحقها. ثمّ يقف فجأة، ويشرع في فكّ أزرار قميصه الواحد تلو الآخر بيد واحدة. أتذكّر أنّني لم أره يومًا يستعمل معي إلا يده اليمنى. يذهلني هذا الاكتشاف المتأخر، والذي يعيدني إلى ذلك البطل في روايتي. وقبل أن اتمادى في تفكيري، أراه يلقي بقميصه على الأريكة المجاورة. ويواجهني بصدره العاري قائلاً وكأنّه يواصل الحديث عن أمر آخر: -لأنّ الحقيقة تعبّر عن نفسها دائماً بشكل رديء! ثمّ يتابع بعد شيء من الصمت: -وأحياناً بشكل قاتل، حتّى عندما لا تتعدّى جريمتها قتل أوهامنا. أنتبه فجأة لذراعه اليسرى. التي تبدو مصابة بشلل يمنعها من الحركة، بينما تظهر أعلاها بعض التشويهات، وكأنّ عملية جراحية أجريت لها في موضعين أو ثلاثة، دون أية مراعاة جمالية. تنتابني قشعريرة، وحالة من الذعر، ليس مصدرها ما أرى. وإنما خوفي من أن أكون قد بدأت أجنّ، ولم أعد أعرف الفاصل بين الكتابة والحياة. ...أو كأنني حلمت يومًا بأن ما يحدث لي سيحدث. وها هوذا يحدث فعلاً. وإذا بي أمام رجلٍ خلقته، وشوهته بنفسي. كنت أعي أنه يختبرني. ويتابع وقع المفاجأة عليّ بحساسية مفرطة. فتداركت ارتباكي وقلت بنبرة صادقة: -لا يعنيني ما تعتقده اللحظة. ولكن ثق أنني أحبك كما أنت. وإلا لما كنت خلقت رجلاً يشبهك تماماً لأعيش معه سنوات في كتاب. ردّ ساخرًا: -لقد مارست دائمًا بجدارة صلاحيات الحبّ في التدمير! قلت: -بل مارست صلاحيات الكاتب في التخيّل ليس أكثر. ردّ: -كفّي عن التخيل.. كلّ الذي أجهدت نفسك في خلقه.. قد سبقتك الحياة إليه. الإنجاز الوحيد بالنسبة إلى كاتب، هو ما يتركه في كتابه من بياض. كلّ صفحة بيضاء في كتاب، هي مساحة مسروقة من الحياة، لأنها تصلح بداية لقصّة أخرى أو كتاب آخر. ومن هذا البياض جئتك.. وليس ممّا تتوقّعينه أدباً. قلت متحاشية الدخول معه في جدل: -لا يعنيني أن أعرف من أين جئتني.. كلّ ما أدريه أنني أريدك. ردّ ساخرًا: حقًا.. توقعت أنك تريدين الحقيقة ! أجبته بشيء من العصبية: -أيّ اعتراف تريد منّي بالتحديد؟ ردّ بالسخرية نفسها: -أنا لا أريد منك أيّ اعتراف؛ يعنيني فقط أن تكوني صريحة مع نفسك، وتعترفي ولو لها، أن ما يحدث بيننا كرجل وامرأة يعنيك بالدرجة الأولى. وأنّ هذه القصة من دونه لا تستحقّ مشقة الكتابة. -ثمّ؟ -ثمّ لا شيء.. عدا كونك تمّرين بمحاذاة هذه الحقيقة الكبرى، وتنشغلين بالبحث عن حقيقة أخرى، أقلّ أهمية، تدور كلّها حول سؤال واحد "من أكون؟". السؤال الأهم في اعتقادي هو "لماذا أنتِ هنا؟". حشرني في المربع الأخير للاعتراف. ولم أجد ما أجيب به سوى: -أنا هنا.. لأن واجبي ككاتبة هو البحث عن الحقيقة.. وكامرأة.. من الطبيعيّ أن أبحث عن الحبّ. ولكنني معك لم أعد أحسن التمييز بينهما. ردّ بنبرة أستاذ: -سأدّلك على طريقة، تتعرفين بها عليهما دون خطأ. فالحقيقة تعبّر دائماً عن نفسها بشكل بشع، والحبّ يبدو دائماً أجمل مما هو! كان يتحدّث إليّ، وهو يرتدي من جديد قميصه، ويده اليمنى تحاول بصعوبة إدخال تلك الأزرار. وبدل أن أساعده على تزريرها، امتّدت يدي تخلع عنه القميص. وراحت شفتاي تتدحرجان على مساحة صدره. ثمّ تنزلقان نحو ذراعه الثابتة مكانها، فتكسوها قبلاً، بشراسة العشق الذي هو وحده قادر على جعل أية حقيقة.. جميلة في بشاعتها ! * * *